تحولات وليد جنبلاط: ذرائعية ارتعاد الفرائص
صبحي حديدي
في تعليق سابق حول نتائج الإنتخابات النيابية اللبنانية، نُشر في هذه الصفحة، أتيح لي أن أرجح إمكانية انتقال الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى اصطفاف جديد يمنحه مقداراً نسبياً من الإستقلالية عن فريقَيْ 14 و8 آذار في آن معاً، إذ لاح لي أن سلوكه في الإجمال يعطي إشارات مبكرة حول موقع وسط ينوي أن يشغله في المستقبل، وربما بالتعاون مع نبيه بري زعيم حركة ‘أمل’ ورئيس البرلمان. ولعل مواقف جنبلاط الأخيرة تؤكد أن ذلك الترجيح ليس سوى المآل المنطقي الذي توجب عليه السير إليه، في ضوء النتائج السوسيولوجية التي أسفرت عنها الإنتخابات النيابية، في الشوف بصفة خاصة، وفي الصف الدرزي عموماً.
وإذا صحت المحاججة التي تقول إن شرائح اجتماعية درزية فقيرة أو متوسطة الحال انفضت عن القيادة الجنبلاطية التقليدية، دون أن تلتحق بصفوف أخرى كما يتعين الإيضاح، فإن التسويغات العقائدية التي يسوقها جنبلاط بصدد ما شهده ‘الحزب التقدمي الإشتراكي’ من تطورات فكرية وسياسية (الموقف من العروبة والقضية الفلسطينية، والإنفتاح على الولايات المتحدة الأمريكية وفكر المحافظين الجدد تحديداً…) ليست هي مكمن الداء، وليس الزعيم الدرزي نزيهاً حين يتكئ عليها في تبرير انقلاباته. وهذا، في كل حال، ليس تأثيماً من أي نوع لأحدث انقلابات الرجل، فهو يقول كلام حق (أياً كان الباطل المراد منه ضمناً) يفضي، في نهاية المطاف، إلى تصحيح أخطاء الماضي، من جهة أولى؛ كما أنه يستخدم تكتيكاً سياسياً مشروعاً تماماً، فرضته متغيرات محلية وإقليمية ودولية، من جهة أخرى. حكم القيمة، الأخلاقي أو السلوكي أو العاطفي، على هذا الإنقلاب أمر آخر مختلف تماماً، ليست السياسة الصرفة ميدانه الأول بالطبع.
ذلك، أيضاً، لا يعني اتخاذ حكم تجريدي، مجرد مطلق، من تحول يصح أن يُرى في صيغة تركيبية، ليست أحادية الجانب، بل لعلها ثلاثية في الأقل: 1) من نافل القول إن موقع الوسط، وبالتالي تأسيس تيار وسط سياسي بين 14 و8 آذار /مارس، حاجة مطلوبة في لبنان، مفيدة، حيوية، ومرشحة لإطلاق ساحة حوارية وتوازنية غائبة؛ و2) أن ميشيل سليمان، أو أي رئيس للجمهورية اللبنانية، ليس الطرف الأصلح لاحتضان ذلك الموقع، على نقيض ما أوحى به جنبلاط في تأويل ابتعاده عن 14 آذار /مارس وعدم اقترابه من 8 آذار /مارس؛ و3) أن معادلة الوسط تلك، مثل كل المعادلات الكبرى في لبنان، لا يمكن أن تنفصل عن سياسة الأطراف اللبنانية تجاه النظام السوري، سواء نهضت تلك السياسة على التحالف مع النظام والإستزلام له، حتى على حساب سورية البلد والشعب؛ أو على خصومته والعداء لسورية البلد والشعب، وليس النظام وحده.
وهكذا، في ما يخص الفرع الثالث من المعادلة المركبة، من غير الممكن أن يُقرأ تحول جنبلاط الأخير بمعزل عن استطالاته، العلنية منها أو الخافية، بصدد العلاقة مع النظام السوري، سيما وأن الرجل لم يبتلع لسانه البتة وهو يحاول استرضاء النظام، وهبط إلى مستوى متحذلق منافق، في التطرق إلى المسؤولية عن اغتيال والده كمال جنبلاط، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والوقوع في ‘خطيئة كثرة الشعارات اللاذعة المناهضة لسورية’. ولكي يتناغم هذا المستوى مع نظائره اللبنانية، أعلن وئام وهاب (الوزير الأسبق، الدرزي، زعيم ‘تيار التوحيد’ المصنف في خانة أزلام النظام السوري) ان ‘الطريق الى دمشق مفتوحة بوجه النائب جنبلاط’.
بيد أن المرء الساذج، من الطراز الذي يمكن أن يصدق عشرات الأقوال التي اطلقها بشار الأسد حول سيادة القانون في سورية، وليس قطيع ذئاب الإستبداد والفساد، ينبغي أن يحذر الزعيم الدرزي من السير إلى دمشق؛ ليس خشية على اعتقاله، أو حتى اغتياله، هناك على يد الأجهزة الأمنية، بل ببساطة لأن ‘دولة الحق والقانون’ هي التي سوف تحتجزه دون إبطاء! لقد نسي وهاب، أو تناسى، حقيقة بسيطة تقول إن المواطن اللبناني وليد جنبلاط مطلوب أمام القضاء العسكري السوري، بتهمة ‘التحريض على اغتيال رئيس الجمهورية العربية السورية’؛ فضلاً عن ثلاث قضايا أخرى رُفعت ضده، بتُهَم ‘إثارة الحرب الأهلية’ والإقتتال الطائفي’ و’تعريض السوريين لأعمال ثأرية’، و’النيل من الوحدة الوطنية’، و’ذم القضاء السوري’.
في المقابل، لن يكون المرء السوي في حاجة إلى ما هو أكثر من استعادة الماضي القريب، لكي يفهم أن لا جديد تحت شمسَيْ قصر المختارة والقصر الرئاسي السوري؛ وأن لسان جنبلاط، الذرب المتقلب المعترف بالخطايا والآثام، سوف يلاقيه ‘قلب سورية الكبير’ حسب تعبير وزير الخارجية السوري وليد المعلم. وغياب ‘الجديد’ هنا لا يُراد منه القول إن تطورات موقف جنبلاط، أو موقف النظام منه، لا تطرح جديداً في معادلات المشهد السياسي الداخلي اللبناني، بل هي ببساطة من طينة ذلك الجديد الذي يعيد إنتاج القديم المكرور، أو حتى المستنفَد المستهلَك، الأقرب إلى رجع الصدى… القريب!
وفي أواخر العام 2000، في الجلسة الإفتتاحية لمجلس النواب اللبناني الجديد، كان جنبلاط صاحب الحجر الثقيل الذي حرك مياه المستنقع الراكد، حين طالب بإعادة انتشار القوات العسكرية السورية المتواجدة في لبنان. تلك كانت مطالبة ترقى إلى مستوى انتهاك المحرم في الأساس، وتقطع الحساسيات جميعها (السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية)، مثلما تعبر الرئاسات اللبنانية الثلاث، والطوائف والطبقات و’الشرائح’، لكي نستخدم تعبير بشار الأسد في الغمز من ذلك التصريح. لكن الحجر الثقيل كان يسقط من شوف وجبل الدروز والموارنة معاً، ومن آل جنبلاط (الذين تقول الحكمة الشائعة أنهم أمهر من يقسم لبنان، وأمهر من يوحده أيضاً)؛ يلقيه من سدة برلمان جديد (كرس عودة رفيق الحريري من النافذة، بعد تشييعه إلى الباب) رجل يُعتبر حليفاً للجميع تقريباً: من النظام السوري، ورئيس الوزراء الجديد الموالي للنظام السوري؛ إلى مسيحيي الجبل غير الموالين لدمشق، وأولئك الذين بَيْن بَيْن. وكيف إذا كان هذا الحليف ابن كمال جنبلاط، الزعيم التاريخي للحركة الوطنية اللبنانية، وخليفته في زعامة السواد الأعظم من أبناء الطائفة الدرزية، في لبنان وسورية و… إسرائيل؟
المنطق السليم كان يقول إن طرح مسألة التواجد العسكري السوري في لبنان، مقترناً بالتجاوزات الأمنية السورية وممارسة الضغوط الداخلية والتعدي على الحريات العامة، وهنا بعض براعة التكتيك، هو الورقة الأبرز التي توجب على جنبلاط أن يلعبها في تلك المرحلة من الحياة السياسية اللبنانية. ومعنى الوجوب هنا لا يبدأ من مجرد ممارسة رياضات التكتيك والتكتيك المضاد، أو التحالف هنا ونصف التحالف هناك، أو الإنحناء أمام العاصفة تارة وركوب الموجة طوراً. الوجوب ذاك ارتدى طابعاً وجودياً على الأرجح، أقرب إلى تجاوز صيغة ‘حفظ البقاء البسيط’ إلى صيغة ‘انتزاع البقاء الأفضل’.
ذلك لأن جنبلاط الابن لا ينسى، أولاً، ان دم أبيه في ذمة النظام السوري، وأن عملية الإغتيال الوحشية تلك لم تبدأ من دور كمال جنبلاط كزعيم درزي فحسب، بل بدأت من ـ ولعلها انحصرت في ـ هدف تفكيك ما كان يُعرف آنذاك باسم ‘الحركة الوطنية اللبنانية’. والذي أصدر أمر الإغتيال كان يعرف تماماً ان كمال جنبلاط أكثر من رجل إجماع وتوحيد وتنسيق، وان مثاله أكثر تعقيداً من مجرد خروج واحد من كبار بارونات الحياة السياسية اللبنانية على أخلاقيات الصف التقليدي، وحرصه على تشكيل تحالف سياسي ـ عسكري يضم التيارات القومية والناصرية والماركسية، إلى جانب فصائل المقاومة الفلسطينية.
وجنبلاط الابن كان يعرف، ثانياً، ان أفضل ما يتوفر بين يديه من خيارات لاختراق المحاصصات الطائفية ـ السياسية التقليدية، والتي ذهب والده ضحية الإنشقاق عنها وعليها، هو إقامة تحالف مع موارنة الجبل، على ثلاث قواعد: اجتماعية وديموغرافية (قضايا المهجرين، وإعتبار إعمار الجبل مسألة ليست أقل إلحاحاً من إعمار الجنوب)؛ وسياسية (التناغم مع النداءات المسيحية الداعية إلى انسحاب القوات السورية)؛ وقاعدة حقوقية (المطالبة بصيانة الحقوق العامة، وضمان حرية الصحافة والتعبير عن الرأي، ونقد الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية التي تأتلف في انتهاك هذه الحريات).
وهو، ثالثاً، كان يدرك أن هذا هو الوقت المناسب للدخول في ‘مناوشة’ محسوبة مع دمشق، وتحقيق مكاسب سياسية على هيئة ‘ضربات’ خاطفة لا تكلفه الكثير. ذلك لأن سلطة بشار الأسد كانت ما تزال فتية، مرتبكة، وغير مستقرة؛ والملف اللبناني مشتت بين ثلاثة أطراف سورية، تبدأ من نائب الرئيس عبد الحليم خدام، وتمر بمستشاري الرئيس السوري من حديثي العهد بالملف وبالسياسة إجمالاً، وتنتهي عند غازي كنعان قائد المخابرات العسكرية السورية في لبنان آنذاك. ولهذا لم يطالب جنبلاط بانسحاب القوات العسكرية السورية من لبنان، ولم يدعُ إلى تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 520، ولم يسأل ويتساءل مثل سواه: ما الذي تفعله القوات السورية اليوم، بعد انسحاب جيش الإحتلال الإسرائيلي من الجنوب؟ في المقابل، طالب بإعادة انتشار القوات السورية وفقاً لاتفاق الطائف الموقع في خريف 1989، وأن لا يكون وجودها العسكري (الذي قد تبرره اعتبارات استراتيجية وإقليمية، كما أوضح) مبرراً لأن تتدخل الأجهزة الأمنية السورية في كل كبيرة وصغيرة على الأرض اللبنانية.
ولقد تبارى أنصار الوجود السوري في لبنان (من إميل لحود رئيس الجمهورية، إلى رفيق الحريري رئيس الوزارة، إلى نبيه بري رئيس المجلس النيابي، إلى البعثي عاصم قانصو الذي هدد جنبلاط بالقتل على يد ‘المقاومة اللبنانية’، كما صرح!)، في امتداح هذا الوجود، وانتهى البعض إلى تخوين كل من يفكر في طرح مسألة كهذه على بساط البحث. من جانبها لجأت دمشق إلى إجراء ردعي أول هو إبلاغ جنبلاط بأنه، عملياً، شخص غير مرغوب به في سورية؛ ثم خففت ذلك إلى إجراء ثان (ليس أقل ردعاً)، هو إبلاغه بأنه يستطيع زيارة سورية مثله مثل أي مواطن لبناني آخر: أي دون مرافقة عسكرية، ودون موكب أمني، ودون ترخيص باستخدام الطريق العسكرية. وهذا، في الواقع، عنى الشيء ذاته، إذْ كان من غير المعقول أن يدخل جنبلاط إلى سورية كما يدخلها أبو العبد البيروتي مثلاً!
.. أو أن يدخلها، اليوم، بدعوة من وئام وهاب… الرجل ذاته الذي طالب بالحجر على جنبلاط في قصر المختارة، أيام غزوة بيروت الشهيرة؛ وأطلق عليه تسمية ‘النمر الكرتوني’؛ واتهمه بالإقطاعية، وإقامة دولة داخل الدولة، ‘ممتدة من الدامور إلى المختارة’؛ وممارسة النهب مع شريكه ‘عبد الحليم هدام’، ويقصد خدام؛ وتحويل التبرعات الإيرانية لأبناء الطائفة الدرزية، إلى حسابات جنبلاط السرية في سويسرا… وليس استقبال جنبلاط لوهاب في المختارة، قبل أيام، إلا الشطر الطبيعي المكمل لسيرورة انقلاباته، وتقلباته، ضمن الصيغة التركيبية إياها.
وثمة، في التركيب، ما يمكن أن يجمع بين السياسي الذرائعي الأريب، والنمر الكرتوني مرتعد الفرائص!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –