التفاوض السوري الإسرائيليصفحات سورية

تقويم للمفاوضات السورية ـ الإسرائيلية: نتنياهو يجهض خيار “سوريا أولاً”

null
سمير غطاس

إسرائيل لن تنزل عن هضبة الجولان سوى في حالتين: الحالة الأولى هي إجبارها على ذلك بالقوة، بالمعنى الشامل للقوة الذي هو أكثر اتساعاً وشمولاً من مفهومنا المحدود للقوة بمعناها العسكري وحده، بينما يمكن أيضاً استعادة هضبة الجولان في إطار صفقة كبرى متوازنة قد تضطر إسرائيل لها إذا كانت ستضمن الحصول مقابلها على مكاسب استراتيجية تعوضها النزول عن هضبة الجولان المحتل وتحفظ لها في الوقت نفسه القدر الأكبر من شروط الأمن والأمان. وكل هذا يبدو بديهياً ومفهوماً، لكن ما هو غير مفهوم وليس مبرراً استمرار هذا التناقض الصارخ بين الخطاب السوري الذي لا يمل من امتشاق شعارات المقاومة ويتهم الآخرين ويتهجم عليهم، بينما يسود الصمت المطبق والهدوء التام والشامل هضبة الجولان المحتل منذ 1974 وحتى الآن.
وربما لذلك تفاخر إسرائيل بأن جبهة الجولان المحتل هي الأكثر هدوءاً وأمناً، وأن السلطات السورية سمحت العام الماضي بتصدير التفاح من إنتاج المستوطنات اليهودية في الجولان عبر أراضيها، وإن كانت سوريا قد تقدمت بشكوى شديدة اللهجة للأمم المتحدة لأنها سمحت باستيراد نبيذ تنتجه المستوطنات إياها في الجولان المحتل. وإذا بقيت سوريا تحافظ على منع الجميع من ممارسة الحق في مقاومة الاحتلال، فإنه لم يعد أمامها سوى خيار التفاوض الذي يبدو أنه أحرز تقدماً ملموساً في نهاية العام الماضي بشهادة الرئيس بشار الأسد الذي أكد أن اتفاق سوريا مع إسرائيل كان على بعد شعرة وليس أكثر، وقد يكون هذا الأمر واحداً من الأسباب التي تدفع الإدارة الأميركية الجديدة للرئيس أوباما للميل لما يسمى بخيار سوريا أولاً، وهناك العديد من المؤشرات التي تدعم هذا التوجه الأميركي الجديد ليس آخرها قرار أوباما إعادة السفير الأميركي الى دمشق، والتحسن الملحوظ والمضطرد في العلاقات السورية ـ السعودية.
والحقيقة أن تفضيل أوباما لخيار “سوريا أولاً” ينسجم مع تأثره القوي بتوصيات لجنة بيكر ـ هاملتون، خصوصاً البنود من 8 الى 17 التي أوصت بالانفتاح والحوار مع سوريا، فضلاً عن تأثره بتقرير لريتشارد هاس أحد كبار الاستراتيجيين الأميركيين نشر في الدورية الشهيرة “الفورين آفيرز” ودعا فيه أوباما لاعتماد خيار “سوريا أولاً”. ويتطابق هذا الخيار مع المصلحة الأميركية المباشرة التي تميل أكثر له للأسباب الآتية:
1 لأن صفقة “سوريا أولاً” ستشترط فصل أو عزل سوريا عن إيران وهو مطلب إسرائيلي ويضعف موقف إيران في حوارها مع أميركا.
2 لأن صفقة “سوريا أولاً” ستتضمن التزاماً سورياً بإغلاق حدودها مع العراق ومنع تهريب الأفراد والأسلحة لتأمين الانسحاب الأميركي ودعم استقرار الوضع الأمني في العراق.
3 كما تسعى أميركا من وراء صفقة “سوريا أولاً” الى التزام سوريا بوقف إمداد حزب الله في لبنان بالأسلحة.
4 ومن شأن خيار “سوريا أولاً” أن يخفف أو يضعف الدعم الذي تقدمه للفصائل الفلسطينية المقيمة في دمشق.
5 ولأن خيار “سوريا أولاً” أقل صعوبة وتعقيداً من “فلسطين أولاً”، إذ يحمل قضايا إيديولوجية ودينية معقّدة مثل ملفات القدس واللاجئين.
6 ولأن الطرفين السوري والإسرائيلي أعلنا على لسان الأسد وأولمرت أنهما كانا على بعد شعرة من إبرام اتفاق سلام بينهما بما يعني جاهزية الطرفين، مع بعض الحوافز والضغوط الأميركية، لإتمام الصفقة.
ويخطئ من يعتقد أن المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل التي احتضنتها تركيا في 2008، كانت الأولى من نوعها في هذا المجال، إذ يحتفظ الطرفان بسجل طويل من المفاوضات السرية التي رعتها أميركا مباشرة.
كانت أميركا افتتحت هذه المفاوضات السرية في ما بات يعرف بإسم “قناة السفراء” التي جمعت في 29/7/1994 ايتمار رابينوفيتش السفير الإسرائيلي في واشنطن بنظيره السوري وليد المعلم وزير الخارجية السوري الحالي الذي كان سفيراً لبلاده في واشنطن آنذاك، وبعد شهور قليلة تطور الأمر وترقى الى مفاوضات سرية بين رؤساء الأركان في البلدين، وفي 21/12/1994 رتبت واشنطن لقاء سرياً بين إيهود باراك واللواء حكمت الشهابي وأشرف الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بنفسه على رعاية هذا اللقاء، لكن الشروط التي طرحها باراك استفزت الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد الذي رفضها وأوقف هذه القناة لكنه أبقى على عمل قناة السفراء، وكلف كلينتون السفيرين: مارتن ايندك، الذي يعود الآن لاستلام الملف نفسه، ودينس روس، برعاية هذه المفاوضات، وقد توصل الطرفان بهذه الرعاية الأميركية الى مذكرة تفاهم، ما أسهم في عودة الروح لقناة رؤساء الأركان، وفي 26/6/1995 اجتمع اللواء الشهابي رئيس الأركان السوري باللواء أمنون شاحاك رئيس الأركان الإسرائيلي، وجرى هذا الاجتماع في قاعدة بورت ـ ماكنير تحت الإشراف المباشر لوزير الخارجية وارن كريستوفر، ونجحت أميركا في ذلك الوقت في الحصول من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين على ما بات يسمى “وديعة رابين”، التي تعهد فيها بالانسحاب الكامل من هضبة الجولان إذا ما لبّت سوريا احتياجات إسرائيل الأمنية.
لكن إنهاء الصفقة تعطل بسبب الخلاف على الترتيبات الأمنية التي اشترطتها إسرائيل في الاتفاق، ولكن بعد فترة من تعليق المفاوضات وصل فجأة الى إسرائيل السفيران مارتن ايندك ودينس روس وأبلغا رابين باستعداد الرئيس الأسد لإتمام الصفقة، لكن رابين طلب إرجاء الأمر الى كانون الثاني 1996 بعد أن يتمكن من الحصول على موافقة الكنيست على موازنة الدولة، لأنه حسب القانون الإسرائيلي تسقط الحكومة ما لم يصادق النواب على الميزانية، لكن رصاصات المتطرف اليميني ييغال عمير كانت أسبق، واغتالت رابين في 24/11/1995 بعد حملة تحريض يمينية متطرفة صوّرت رابين وهو يعتمر الكوفية الفلسطينية لياسر عرفات.
لكن ملف التسوية السورية ـ الإسرائيلية لم يدفن مع رابين، وعاد شمعون بيرس فاستأنفه مع سوريا في كانون الثاني/ يناير 1996، لكنه، كعادته، مال أكثر للتوصل الى اتفاقات اقتصادية مشتركة بين البلدين ما دفع سوريا الى وقف المفاوضات معه، وبعد فوز نتنياهو على بيرس وترأسه الحكومة في حزيران/ يونيو 1996 اعتمدت إسرائيل تكتيكاً مزدوجاً، ففي ظل الخطاب السياسي المتشدد لنتنياهو استأنفت الاتصالات السرية مع سوريا بواسطة صديق نتنياهو الملياردير الأميركي رون لاودر وآخرين، لكن الاتصالات أجهضت بسبب خسارة نتنياهو الانتخابات أمام باراك، الذي أعطى دفعة قوية جديدة للمفاوضات السرية باجتماعه في واشنطن بوزير الخارجية السوري السابق فاروق الشرع، وشعر كلينتون، الذي كان متلهفاً إلى نيل جائزة نوبل للسلام، بأنه قريب من التوصل الى اتفاق للتسوية بين سوريا وإسرائيل، ومن أجل حسم هذا الاتفاق رتب لقاء مع الأسد الأب في جنيف في 26/3/2000، لكن اللقاء فشل والصفقة تعطلت، بسبب ما أسمته المصادر الإسرائيلية الربط بين ملف التسوية مع إسرائيل وملف التوريث في سوريا، بعد أن طلب الأسد الأب، دعماً أميركياً لأول عملية توريث في النظام الجمهوري العربي لنقل السلطة الى ولي العهد الدكتور بشار الذي كان حل مكان الوريث الأصلي شقيقه المرحوم باسل الذي قضى في حادث أليم على طريق مطار دمشق. وبعد وفاة الرئيس الأسد الأب جرى على عجل تعديل الدستور ليتناسب مع سن الوريث ووسط إجراءات غاية في الشفافية والديموقراطية جرى تنصيب الرئيس الجديد بشار الأسد في 10/7/2000. ونظراً لاهتمام الرئيس الجديد بقضايا أهم وأكبر من تحرير الجولان المحتل، تعاقبت السنوات التالية من دون تسجيل أي تقدم في المفاوضات الى أن عاودت عجلة المفاوضات دورانها من جديد في العام الماضي 2008 والتي انتهت الى الوقوف على بعد شعرة من الاتفاق على التسوية حسب تصريحات زعيمي البلدين.
كان الطريق الى استئناف المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية في تركيا العام الماضي قد مر بعدد من المحطات المهمة التي تستوجب التأمل والتحليل، ففي تشرين الأول/ أكتوبر 2002 بلغ الصلف الإسرائيلي مداه حين قام الطيران الإسرائيلي الحربي بالتحليق فوق قصر الرئاسة السوري في قلب دمشق وعاد فكرر فعلته ولكن بالتحليق فوق منزل الرئيس السوري في مسقط رأسه، وفي تموز/ يوليو 2006 شنّت إسرائيل حربها العدوانية على لبنان والتزمت سوريا الصمت طوال فترة الحرب، لكن الرئيس السوري بشار الأسد فاجأ الجميع وألقى خطاباً نارياً يوم 15/8/2006 اتهم فيه القادة العرب بأنهم “أنصاف رجال”. وبعد أقل من عام جدد الرئيس السوري لنفسه ولاية ثانية تنتهي في 2014 بعد إعلان وزارة الداخلية السورية فوزه في الاستفتاء كمرشح وحيد للرئاسة بنسبة 99% من أصوات الشعب السوري الشقيق، ولكن هذا لم يكن كافياً لردع إسرائيل عن الاستمرار في عربدتها، فقامت في 6/9/2007 بقصف جوي لمنشأة في العمق السوري في دير الزور بدعوى أنها منشأة نووية، ولكن الرئيس السوري أدار ظهره تماماً لخطابه الشهير بعد الحرب على لبنان وقال للـ بي.بي.سي “إذا رددنا على إسرائيل عسكرياً فسنعمل بحسب برنامج إسرائيل، لدينا وسائل خاصة كالرد السياسي”. ولم يتأخر رد الرئيس السوري كثيراً على العدوان الإسرائيلي فأعلن عن مشاركة سوريا في اجتماع أنابوليس في 27/11/2007 ومنع اجتماعاً دعت إليه حماس في دمشق للتنديد بمشاركة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في أنابوليس نفسها، لكن حتى هذا الرد البليغ لم يردع إسرائيل عن عربدتها فقامت في 12/2/2008 باغتيال عماد مغنية في قلب دمشق، ثم انعقدت القمة العربية في دمشق نفسها في 29/3/2008 وهاجم الرئيس السوري بشار الأسد بقوة تعلق العرب بالمبادرة العربية للسلام، وبعد أقل من شهر واحد فقط كشف الأسد الإبن علناً في 24/4/2008 عن المفاوضات التي تجريها سوريا وإسرائيل في تركيا، وتحدث الأسد في تصريحه هذا عن تسلمه رسالة من أولمرت عبر أردوغان تعهد فيها رئيس الوزراء الصهيوني بالالتزام بوديعة رابين. ولم يكن من قبيل المصادفة في شيء أن تعلن الشرطة في إسرائيل في اليوم التالي عن مباشرة التحقيق مع أولمرت بشأن فضيحة فساد مالي داخلي وليس بسبب وديعة رابين، ولكن أولمرت الذي أزيح عن رئاسة حزب كاديما وواصل كأي أوزة عرجاء رئاسته للحكومة أبدى مزيداً من الجلد على مواصلة المفاوضات مع سوريا حتى الأيام الأخيرة لولايته حتى أعلن الطرفان أنهما كانا على بعد شعرة واحدة فقط من تحقيق التسوية. كانت سوريا هي من طالب في نهاية مفاوضاتها مع إسرائيل بضرورة الانتقال الى المفاوضات المباشرة ولكنها اشترطت ضرورة مشاركة أميركا في رعاية هذه المفاوضات المباشرة. وعندما سأل الرئيس الأسد في قناة الجزيرة يوم 14/7/2008 عن تصوّره للعلاقة المستقبلية مع إسرائيل مع التسوية قال: “علاقات طبيعية مثل تلك التي تكون بين دولتين توجد سفارات وعلاقات واتفاقات”، وتشير كل التقديرات التي تتابع سير المفاوضات السورية ـ الإسرائيلي أنها حبلى بجنين يشبه اتفاقية كامب ديفيد ولكن بتأخير لا يزيد عن 30 سنة، فقط. وكان بعض المعلقين في إسرائيل غمزوا من قناة تركيا التي احتضنت المفاوضات الأخيرة بالإشارة الى لواء الاسكندرونة السوري الذي تنازلت عنه سوريا لتركيا ولم يمنعها ذلك من إقامة علاقات حميمة بينهما. وليس من المستبعد أن تعيد إسرائيل في عهد نتنياهو تشغيل هذه الأسطوانة، كجزء من سياسته لصد رغبة أوباما في إحياء خيار سوريا أولاً، ويبدو أن هذا ما حدث بالفعل أخيراً عندما كشف النقاب في إسرائيل عن الخطة التي حملها فريدريك هوف مساعد جورج ميتشل عند زيارته الأخيرة لإسرائيل في 15/7 والتي حملت عنوان “رسم خريطة السلام بين سوريا وإسرائيل”، ولم يتأخر نتنياهو عن الرد بإعادة طرح قانون تحصين الجولان الذي يقضي بضرورة عرض أي اتفاق حول الانسحاب من الجولان على استفتاء شعبي لإقراره، ما يضع أوباما نفسه وخطته “سوريا أولاً” محل حرج شديد، وربما لهذا يتوجب علينا أن نرفع هذا الحرج عن الرئيس أوباما ونهوّن الأمر عليه فقد انتظرت الجولان اكثر من أربعين عاماً تحت الاحتلال الإسرائيلي، وما دام ذلك لم يحرجنا للآن، فليس على الرئيس الصديق أوباما من حرج.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى