“يد ملأى بالنجوم” لرفيق شامي بالعربية:رواية الحنين لكن بعيدا من الألم العربي
مازن معروف
يكتب رفيق شامي بلغة سهلة، غير متكلفة أو متحذلقة. هو لا يلف اطواقا حول جملته، ولا يكثف من وصف، أو حدث او فعل. الأشياء، تبقى بسيطة كما رآها، الى حد التلقائية. فلا مغالاة في التفسير، ولا تحليل ولا مقاربات متثاقفة. لذا فإن السياق القصصي الروائي لهذا الكاتب الألماني، السوري الأصل، يبقى منوطا بمناخ الحارة الدمشقية التي يكتب عنها. فهو في روايته “يد ملأى بالنجوم”، الصادرة عن “دار الجمل”، ينتقي شخصية مراهق عمره أربعة عشر عاما، يغلب بأناه على الرواية ليعززها وليغرز أصابعه في التفاصيل اليومية، فيبدو كل ما يحصل في الحارة الدمشقية، متعلقا بالفتى أو أحد أقاربه أو معارفه، أصدقائه أو حبيبته. فما يحدث في الرواية، يبدو تفصيلا يستعرضه الكاتب بخفة، من دون الاسهاب في أسبابه أو نتائجه على المدى الطويل، الأمر الذي يخلق متتالية زمنية، تتسارع بفعل اللغة المختزلة لرواية هي على شكل مذكرات متقطعة. الزمن في روايته، وجوه وأزمنة عديدة، فهو من ناحية: الكل، أو الكتلة التي تتماسك أجزاؤها في مقابل تماسك المكان المغلق أو الواحد (الحارة الدمشقية). ومن ناحية ثانية هو زمن، مؤلف ليكون عبارة عن قطع أحجية، أو على حد تعبير شامي نفسه، “كأحجار فسيفساء”، مفككة، كل منها متناثر في مطرح من الذات أو الذاكرة. لذلك فإن تجميعها عملية صعبة، وتستلزم وحدة الفعل، بغض النظر عن الذروة الكاملة للعمل. ففي قطع الزمن الصغيرة، يبدو كل حدث أو فعل جزئي، خلية روائية لها ذروتها وانبعاثها الخاص، فيما الفعل لا يمكنه أن يستقل بذاته من دون أن يعلن الروائي ارتباطه بالفعل اللاحق، باعتماده أسلوبا سرديا رشيقاً. الزمن المخفف في الكتاب، هو الزمن الذي يأتي على دفعات أو جرعات طفيفة. كل جرعة تختصر شيئا من عمر الفتى وأحلامه وتطلعاته، أو حتى مفارقات عيشه اليومي، أو انزعاجاته، بكائه وتساؤلاته عن الحب والسفر والعائلة والوطن، الذي تبدأ السياسة بكسوته. صدرت “يد ملأى بالنجوم” رواية باللغة الألمانية قبل عشرين عاما، لينجز كاميران حوج ترجمتها إلى العربية. لاقت الرواية نجاحا منقطع النظير، وهي من الروايات القليلة جدا في الأدب العربي المعاصر، يشتمل النص فيها على الإمتاع والتشويق والجذب. هذا كلّه بأدوات بسيطة، ولغة مهذبة، أفقية لوهلة أولى، لكنها ذات عمق مستلهم من فطرية مراهق يتمعن في الأشياء، من دون أن يزعجنا كقراء. يقدم مادته الخاصة على انها جزء من حياة شخصية قد لا تعني أحدا سواه. إنها واحدة من الروايات التي قراءتها تغمس أحاسيسك بالحنين إلى المكان الأول وتشدك نحو ذكرياتك الشخصية فيما أنت تتقلب من صفحة إلى أخرى، لتحرض فيك رواية تلو أخرى. المدهش أن شامي يقتصد في سرده، مختزلا التفاصيل، ومبتعدا عن حشو النص. هو أحيانا ينتقل من مشهد عام، بعد أن يقفله، إلى تفصيل خاص جدا وعابر. وإذا كان النفس الدرامي يثقل الكثير من أعمال روائية عربية، ويسمها بسوداوية وكأنها إحدى حتميات حياتنا، فإن رفيق شامي يستطيع، بعد أن ينجز الكثير من الكتابة، ومن ثم الحذف، أن يطير بعيدا عن “الألم العربي”، لكن من دون أن ينفيه نفيا تاما. فالسياسة تحضر، والبوليس والمخابرات، لكن في المقابل تحضر الحارة السورية بطيبة أبنائها وتعاطفهم بعضهم حيال البعض الآخر. هم أشخاص بسيطون، طيبو القلب، يتشاجرون أحيانا لكن سرعان ما تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي، وفي الأزمات والانقلابات، لا يكون أمامهم سوى أن يستمروا في عيشهم البسيط، في المكان الذي لا تخرج عنه الرواية. بضبط المكان، وإبقاء هوية سكانه وتوزيعهم الديموغرافي الذي لا يتغير إلا بموت العم سليم مثلا، وهو عجوز قصير البصر ونافذ البصيرة، أو ولادة إبن الخضرجي، فإن أحداً لا يترك الحارة. لا إشارة مثلا الى سفر أحدهم، ولا الى قدوم وافد جديد، وإنما شخصيات جديدة يكتشفها البطل المراهق، الذي في مرحلة لاحقة، لن يعود مراهقا. وتكاد المتغيرات الحياتية التي تطرأ على أشخاص الرواية، تبدو عادية. لكن إيجازها ومزجها بالمفارقة، أو الحدث السياسي، أو التوتر الاجتماعي، كالبحث عن عمل ومحاولة ترك الحارة، والمتغيرات السياسية، والقبض على حبيب الصحافي بتهمة توزيع صحيفة “الجوارب”، يؤلفان عمودا فقريا للعمل، يستند اليه ضمن البنية الروائية، تشكل مفارقة مدهشة. تتحرك الحوادث ضمن مستويين يتعلقان بالموقف السياسي للكاتب. الأول هو وعيه الشخصي بالمحيط. يكبر ثلاثة أعوام خلال الرواية ، لكننا لن نحدس هذا، وإنما نفاجأ به فقط في النهاية. خلال ذلك، يتمدد وعيه الخاص، أو منطقه المتعلق بالحياة بكل روافدها الاجتماعية: مقاربته المتعلقة بأمه، علاقته بالأب، وموقفه من الفرن الذي يملكه الأخير. فالإبن لا يريد أن يكون خبّازا كأبيه، لذا يبدأ بحثه عن “مستقبله” الخاص انطلاقاً من هنا. ثمة أيضاً علاقته بنادية وهي حبه المبكر، وعلاقته بحبيب الصحافي النزيه، وبصديقيه محمود وجوزف، وبالمجنون صاحب العصفور الدوري الذي يعتقل ويعذب، وبسليم صاحب الرؤية الحادة، والذي يشكل موته فاصلة درامية ضخمة في نهاية العمل، وهو الموت الذي يضاف إلى اعتقال الصحافي، ليدفع بشامي الى إبقاء النهاية مفتوحة وكأنها في انتظار كومة جديدة من المذكرات مستقبلا. أما الأمر الثاني فمتعلق بالشق السياسي، الذي يتحرك في خطين: الموقف العام وغير المباشر من الانقلابات، يظهر على لسان الناس المحيطين بالبطل، ويكون حاسما في بلورة موقف الصبي الرافض لأشكال الحكم العسكرية. أما الموقف المباشر فهو ذلك الذي يتلألأ من خلال نضج الصبي المبكر، ورغبة العمل في الصحافة وإصدار جريدة مناوئة للسلطة العسكرية: “أنا أريد الكتابة عن مجنون دمشق. فهذا المجنون يمثلنا جميعا وعصفوره الدوري يمثل الأمل. وما فعلوه به، ينوون فعله بنا جميعا”. رفيق شامي، إسمه الحقيقي سهيل فاضل، ولد عام 1946 في دمشق. درس الرياضيات والكيمياء والفيزياء، وعمل مدرسا قبل أن يهاجر عام 1971 إلى ألمانيا ليعمل في ورش ومصانع، ويحوز شهادة الدكتوراه في الكيمياء العضوية المعدنية عام 1979. بعدها بثلاث سنوات، تفرغ للعمل الأدبي، ولقب بحكواتي الشرق. يؤخذ عليه بأنه كاتب باللغة الألمانية وليس العربية، ولهذا فقد حورب، غير أن أعماله ترجمت من الألمانيــة الى العربية والباسكية والصينية والدانماركية والفنلنديــة والإنكليزية والفرنسية واليونانيــة والعبرية والإيطالية واليابانية والكاتالانية والكورية والهولندية والنروجية والبولونية والإسبانية والتركية والأسوجية والصربية والسلوفينية والكرواتية. وهو منذ عام 2002، عضو في أكاديمية الفنون الجميلة البافارية، كما طبع أكثر من مليون نسخة من مؤلفاته. (عن النهار).