العمال السوريون في لبنان : ضحايا مرتين
أحمد مولود الطيّار
أثناء عملي القصير في فضائية ” زنوبيا ” كان هاجسي الأول هو تصوير ” ريبورتاج ” أو أكثر يحكي معاناة وبؤس العمالة السورية في لبنان ، يصور واقعهم بدون رتوش ، بدون فلسفة زائدة ، بدون تسييس .
كانت الأسئلة التي تدور في رأسي ، كيف تأكلون وماذا تأكلون ؟ كيف تشربون ؟ كم تتقاضون مقابل عملكم ؟ كيف تنامون ؟ ماهي معاناتكم وماهو ألمكم الى أخر تلك المفردات اليومية البسيطة والدالة ؟؟؟
لا أدري ، ان كنت والمصور الذي رافقني في شوارع بيروت قد نجحنا أم لا . أنجزنا فيلما مدته 35 دقيقة استغرق ساعات عديدة على مدى يومين متتاليين ، فمنذ الصباح الباكر كنا في ” البور” كما يطلق على مكان تجمع ” البولمانات ” القريب من ميناء بيروت، حيث تخال نفسك في ” كراج ” سوري مائة بالمائة، فالباصات تتوجه الى كل المدن والبلدات السورية ، وتعود محمّلة بالعمال الذين ضاقت بهم السبل في بلدهم الذي يكبر لبنان مساحة وسكانا ومواردا أضعافا مضاعفة .
في ذلك المكان صورنا الأقدام ما أن تطأ الأرض اللبنانية، حيث تبدأ بعدها رحلة البحث عن لقمة الخبز مغمسة بالجهد والعرق والتوسل والاهانة .
تتوازعهم ساحات بيروت وتحت جسورها، ينتظرون بعيون مراقبة وقلوب واجفة ” بيك ” أو ” خواجة ” يطلب منهم أداء عمل ما، حيث كلما اقتربت سيارة يهجمون عليها علّ لدى القادم ” أجرة اليوم ” .
كم تتقاضون من أجر ؟ لا اختلاف كبير في الاجابة على هذا السؤال، فقد أجمع أغلب من التقيناهم وهم عينة شكلت أكثر من خمسين عاملا، أن معدل أجرهم الشهري يتراوح بين ال 300 وال 400 دولار . كيف تنفقونها ؟ الاجابات أيضا جاءت شبه موحدة : ” نبقي معنا ما يعادل ال 100 دولار ونرسل الباقي الى أهلنا في سورية ” . كيف تعيشون – وفي بيروت حيث تكاليف المعيشة مرتفعة جدا – ب 100 دولار؟
نسمع تأتأة وهمهمات ولا نأخذ جوابا، والبعض رفع وجهه الى السماء وقال ” يدبرها الله ” . أما كيف يعيشون ب 100 دولار أي أقل من 5000 ليرة سورية في مدينة تعتبر ربما الأغلى في العالم من حيث ارتفاع تكاليف المعيشة، وللتدليل على ذلك ، ربما تصبح الصورة أوضح، المثال الأول ، الأجرة في باصات النقل الداخلي في العاصمة اللبنانية على الخطوط القصيرة محددة ب 1000 ليرة لبنانية، ما يعادل 30 ليرة سورية . وعلى الخطوط الطويلة ب 1500 ليرة . المثال الآخر، وهو دال وهام أيضا : سعر صندويشة الفلافل في لبنان وفي الأحياء الفقيرة ب 1500 ليرة لبنانية . هذان المثالان يمكن القياس عليهما : كم هي قاسية ظروف حياة هؤلاء العمال، حيث تقدر عددهم بعض المصادر ب 600 الى 700 ألف عامل سوري ، أما كيف يعيشون ب 100 دولار ، فاستطعنا أن نحصل على الاجابة من خلال التعرف على جوانب أخرى من حياتهم .
كم عددكم في مكان السكن الذي تقيمون فيه ؟ بين 8 الى 10 ويرتفع الرقم الى 13 و 14 شخصا في الغرفة الواحدة . تلك كانت الاجابة ، ولما دخلت والمصور الى بعض بيوت هؤلاء العمال وتحديدا في حي ” النبعة ” المكتظ ، تقف مذهولا لما ترى وتسأل وتتسأل كيف تعيشون في هذا المكان فالسجن أرحم ؟ فرد علي طفل صغير- عامل – لم يتجاوز السادسة عشر من عمره ، ” أفكر بالعودة الى سورية ودخول السجن لأنه أرحملي ” .
ماذا تأكلون ؟ كبار السن من العمال خجلوا ولم يجيبوا أما صغارهم فأجابوا باستهزاء : ” شوربة وسردين وخبز وشاي ” .
في سؤال توجهت به الى الشباب من هم في سن الزواج ، هل تفكرون في الزواج ومتى ؟ ضحك أغلبهم وقالوا بأن الموضوع مؤجل حتى تتحسن أحوالهم و” نجمع قرشا ” .
في الاجابة على سؤال ، كيف تتعامل معكم السلطات اللبنانية حيث تتجمهرون وتقفون في الساحات العامة ؟ أغلب الاجابات أكدت معاناتها من سوء المعاملة، وأنها تتعرض دوما لملاحقات ” الدرك ” اللبناني ، وتصادر أوراقهم ووثائقم وثبوتياتهم الشخصية، والبعض أكد بأنه تعرض للضرب والاهانة .
لمن تحملون المسؤولية لما أنتم فيه ؟
بصراحة اعتقدت أنهم سيرددون اسطوانة النظام السوري المشروخة في هذا المجال، ويحملون الجانب اللبناني مسؤولية معاناتهم وسوء أحوالهم واستغلال أرباب العمل اللبنانيين لهم ، لكن الاجابات وبعيدا عن الرغبوية تفاجئك – تم حذف أغلبها بالمونتاج – بمدى الوعي الذي بدأ يتشكل لدى هؤلاء العمال، وأنهم باتوا يعرفون من يجوعهم ويرمي بهم الى المهانة ، فقد أكدت كل الاجابات – بالمطلق – أن سبب ما هم فيه هو ” الحكومة السورية ” وأردف بعضهم ” لماذا نأتي الى لبنان وبلدنا أغنى بلد في الشرق الأوسط ” .
” سوكلين ” قصة أخرى :
لمن لا يعرف ” سوكلين ” هي الشركة التي تتعهد عملية تنظيف ولم ” القمامة ” في مدينة بيروت، وللأسف بات اسم ” السوري ” مرتبطا باسم ” سوكلين ” ، ولابأس هنا من ذكر حادثة حقيقية ومعبّرة يعرفها الكثير من السوريين وخاصة متابعي الرياضة، وان كنت أسردها هنا، انما للتدليل على الوضع المزري والمهين الذي أوصلنا اليه نظام الشعارات الجوفاء، النظام الذي وضعنا في أدنى مراتب الحضارة : في دورة رياضية عربية أقيمت منذ سنوات في بيروت أيام ” عز الجيش السوري ” في المدينة الصابرة، وكانت المنافسة بين فريقي البلدين المنتخب السوري واللبناني لكرة القدم، وفي ذروة اشتعال المباراة، هتف مشجعون سوريون – أغلبهم عساكرممن يأدون خدمتهم الالزامية في لبنان – لمنتخبهم، فكان أن غطى عليهم مشجعون لبنانيون بهتافات قوية وعالية ” سوكلين سوكلين سوكلين ” .
تشكل العمالة السورية نسبة عالية بين العاملين في تلك الشركة (رفض المسؤول عن شؤون تلك العمالة مقابلتنا وهو بالمناسبة سوري لذلك لم تتوافر لدينا أرقام دقيقة )واذا ما قورنت أوضاعهم ببقية أوضاع مواطنيهم في مجالات عمل أخرى، كانت الغلبة لهم حيث تعتمد ” سوكلين ” نظاما داخليا فيه المبيت مؤمن . وفي اللقاءات التي أجريتها مع عمال التنظيفات السوريين في الطرقات العامة، أكدوا أن أوضاعهم جيدة وأنهم يتقاضون راتبا شهريا قدره 400 دولار بمعدل دوام 12 ساعة في اليوم مضافا اليها أجر 3 ساعات ” عمل اضافي ” قدره 100 دولار ، أي أن عدد الساعات التي يعملها عامل التنظيفات في ” سوكلين ” 15 ساعة عمل يومي !!!! ولما سألنا عمال التنظيفات أولئك عما يفعلون في بقية يومهم ، أجابوا ننام ونأكل !!!
بالتأكيد الصورة أبلغ من كل الوصف والكلمات ولكن مالم تستطع الصورة نقله والأدق تم حذفه عبر عملية المونتاج، مرة احتراما للعمال أنفسهم لأنهم تمنوا علينا ألا ” نذيع ” كل ما قالوه، ومرة أخرى، لأننا لمسنا كمّ الخوف القابع والمسيطر في دواخلهم ، لأنهم في النهاية سيعودون الى وطنهم الذي استودعوا فيه أهلهم وأطفالهم وأحبتهم .
ملاحظات :
– في العينة التي تمت مقابلتها والتي تتراوح بين ال 50 وال 60 عاملا وتوزعت اللقاءات في مناطق مختلفة من شوارع بيروت ( الدورة – جسر المطار – الصالومي – جونيه – البور – برج حمود .. ) لوحظ حضور كثيف من محافظات سورية محددة كدير الزور والحسكة والرقة وريف حلب وادلب والسويداء . وهذا مستغرب في محافظات تعتبر ” سلة الغذاء ” في سورية حيث فيها أهم الموارد الاقتصادية السورية .
– لوحظ أيضا وبنسبة مرتفعة في العينة المذكورة الأعمار الصغيرة حيث سن ال 16 و ال 17 كان طاغيا .
– لمسنا أيضا ارتفاع اليأس والتذمر وخاصة لدى ممن لا يمتهنون عملا واضحا .
– الموسيقى التصويرية التي رافقت الريبورتاج أغنية عبد الرحمن آل رشي ” أنا سوري يا نيالي ” ولكن وبالاعتذار من الممثل الكبير ربما تصلح هذا الأغنية الجميلة لسورية أخرى لازلنا نحلم بها .
أخيرا، لا يدعي هذا المقال / التحقيق أنه يقدم صورة كاملة عن أوضاع العمالة السورية في لبنان، انّما ما يدّعيه، أنه يقدم مقاربة لبعض من أحوالهم، والأهم أنه يدق جرسا في وجه الحكومتين السورية واللبنانية كيلا تتحول تلك العمالة الى جيش احتياط يرفد كل من يهوى لعبة التطرف بكافة أنواعها، الأولى ، لأنها دفعت وتدفع كل يوم بالمزيد من السوريين الى المجهول عبر اعتبار الوطن مزرعة خاصة، وكذلك عبر سياسات أثبتت فشلها وأثبتت أنها لم تجلب الا المزيد من الفقر والجوع . أما الحكومة اللبنانية فمطالبتها بالمزيد من تنظيم تلك العمالة والمحافظة على حقوقها وتحصينها قانونيا من جشع أرباب العمل اللبنانيين .
كاتب سوري – بيروت
خاص – صفحات سورية –