صفحات الناس

عارف دليلة:السياسة الزراعية الموجهة بشكل خاطيء أسهمت في احداث الازمة الراهنة

null
قبل بضعة عقود فقط
كانت الاسماك وفيرة في نهر العاصي الذي كان على مدى الاف السنين يوفر الماء للاراضي الزراعية السورية الواقعة عند مفترق طرق العالم القديم.

ولكن هذه الايام لم تعد السواقي (النواعير) الضخمة على نهر العاصي التي يرجع تاريخها للقرن الثاني عشر والتي يميزها صريرها العالي قادرة على رفع المياه بسبب ضعف تدفقها. وغطت الطحالب سطح النهر وضيقت الصحراء الخناق عليه.

وقال محمد الحمود المزارع البالغ من العمر 80 عاما “النهر أصبح ملوثا جدا. نوعية منتجاتنا تضررت ولم أعد الان أكسب ما يكفي لاطعام أسرتي.”

وأدى أسوأ جفاف تشهده سوريا منذ عقود الى تهجير مئات الالوف من السكان وأثار مطالبات بسياسة منسقة للمياه في الشرق الاوسط في الوقت الذي تواجه فيه المنطقة مناخا أكثر جفافا واستنفادا لمصادر المياه بسبب السدود وحفر الابار.

غير ان الشكوك تحيط بامكانية التوصل الى سياسة منسقة للمياه في منطقة تسودها التوترات والمنافسات وتأتي فيها سياسات المياه لصالح طرف على حساب الطرف الاخر.

ونهر الفرات الذي يمتد من تركيا عبر سوريا الى العراق ملوث وترتفع فيه نسبة الملوحة. وخفضت السدود التي اقامتها تركيا على النهر والطلب على المياه من جانب أعداد السكان المتزايدة منسوب مياهه بدرجة كبيرة.

ومحمد عقلة واحد مما بين 200 الف و250 ألف مزارع سوري اضطروا مع أسرهم على مدى ثلاث سنوات للتخلي عن اراضيهم بسبب الجفاف حسب تقديرات دراسة اعدتها الامم المتحدة في الفترة الاخيرة.

وقال عقلة الذي ترك محافظة الحسكة قبل خمسة أشهر ويقيم الان في خيمة مع زوجتيه و15 طفلا بالقرب من مقلب للقمامة في دمشق “فقدت ثلثي ماشيتي بعد جفاف ابار المياه.”

وتحولت أفراد أسرة عقلة فعليا من منتجين للقمح والماشية الى لاجئين. الذباب يغطي وجوه أطفاله الحفاة الذين يلعبون بالخردة والقمامة
وقال عقلة “نستطيع بالكاد شراء الخبز والشاي لاطعام انفسنا. لم يرنا مسؤول حكومي واحد. ولا نتلقى أي مساعدة.”

وترك مزارعون من مناطق تبعد 30 كيلومترا فقط عن دمشق اراضيهم لينتقلوا الى خيام أو مناطق عشوائية.

وسوريا منتج كبير للسلع الزراعية في المنطقة. وتسهم مبيعات القمح وزيت الزيتون والماشية والفاكهة والخضروات بنحو 20 بالمئة في الناتج المحلي الاجمالي البالغ 45 مليار دولار ويعيش نحو نصف السكان البالغ عددهم 20 مليون نسمة على الزراعة.

لكن الانهار ونحو 420 ألف بئر حفر نصفها تقريبا بشكل غير قانوني في العقود القليلة الماضية بدأت تجف وأضر الجفاف وسوء ادارة موارد المياه بشدة بالزراعة خاصة في محافظة الحسكة الواقعة على الحدود مع العراق.

ومن المتوقع أن ينخفض انتاج الحسكة من القمح الى 892 ألف طن هذا العام بالمقارنة مع 1.9 مليون طن كان مخططا لها.

وارتفعت حالات سوء التغذية بالمحافظة بنسبة 370 بالمئة منذ عام 2006 وبنسبة 229 بالمئة في محافظة دير الزور المجاورة المطلة على نهر الفرات حسب دراسة الامم المتحدة.

وأظهرت الدراسة أن الجفاف يغطي الان أكثر من 60 بالمئة من مساحة الاراضي السورية وتضرر منه نحو 1.3 مليون شخص حتى الان وتستقبل المناطق المحيطة بدمشق وحلب وحماة النسبة الاكبر من المهجرين.

وقال الاقتصادي البارز عارف دليلة ان السياسة الزراعية الموجهة بشكل خاطيء والتي تشمل دعم انتاج القمح أسهمت على مدى العقدين الماضيين في احداث الازمة الراهنة.

وقال دليلة الذي قضى فترة عقوبة مدتها سبع سنوات في السجن لانتقاده السياسة الاقتصادية للحكومة ان الدولة سمحت بزراعة القمح في مناطق شبه جافة كانت مخصصة للرعي وشجعت على حفر الابار بشكل غير قانوني مما أضر بمستويات المياه الجوفية
الثالث. أدت السياسة الزراعية المكلفة الى استنزاف الابار الجوفية وتدمير الاحواض المائية. نحن الان نستورد القمح والاعلاف بعد أن اقتطعت المراعي الطبيعية. لا يمكننا القول أن النجاحات في قطاع الزراعة كانت مبهرة.”

والمسألة ذات حساسية سياسية. فالحكومة التي يسيطر عليها حزب البعث منذ أن تولى السلطة عام 1963 في انقلاب عسكري تصف ادارتها للسياسة الزراعية باعتبارها انتصارا استراتيجيا.

لكن هذه السياسة تعرضت لانتقادات نادرة من نوعها بعد أن جاء محصول عام 2008 أقل من المتوقع مما دفع الدولة لاستيراد القمح لاول مرة منذ تسعينات القرن الماضي.

وقالت ريم عبد ربه مديرة سلامة المياه بمديرية شؤون البيئة لوكالة الانباء السورية سانا “ان تحقيق الامن الغذائي الذي يشكل أحد مرتكزات السياسة السورية عمليا يكون على حساب الامن المائي مما يهدد استدامة التنمية الزراعية على المدى البعيد.”

وأضافت “يستدعي الوضع اعادة النظر بأولويات التنمية والاقتصاد السوري واحداث تغييرات جذرية في السياسة الزراعية.”

وأبلغ وزير المالية السوري محمد الحسين البرلمان الذي يهيمن عليه حزب البعث الشهر الماضي أن الحكومة تعمل على تأسيس صندوق للحماية من الكوارث الزراعية لكنه لم يذكر أي شيء عن التخلي عن سياسة الدعم المكلفة التي يقول الخبراء انها السبب في الازمة الراهنة.

وتستهلك الزراعة نحو 90 بالمئة من المياه المتاحة وتأتي 60 بالمئة من الموارد من الابار الجوفية التي انخفضت مستويات المياه فيها بحدة مما رفع تكلفة الانتاج الزراعي وأثار قلق ملاك الاراضي.

وحتى المناطق الغزيرة النمو عادة تضررت. وفي منطقة عفرين في شمال غرب البلاد تملأ أشجار الزيتون والتفاح والرمان المنطقة الجبلية على الحدود مع تركيا لكن الانتاجية انخفضت.

وقال المزارع الكردي حسن سيوا “زيت الزيتون الذي نصدره لاوروبا يزداد حموضة كل عام. الانهار ضعفت ويتم القاء المزيد من مياه الصرف فيها. الحكومة تبدو بلا حول ولا قوة.”
ويحدث الشيء نفسه في أجزاء أخرى من سوريا. كان تدفق نهر العاصي قويا ذات يوم حتى أنه ساعد في حماية قلعة شيزر التي أقامتها وحدة تابعة لجيوش الاسكندر الاكبر من هجمات الغزاة.

وجف نهر الخابور أحد فروع نهر الفرات والذي كان يروي المزارع في الحسكة. أما نهر بردى في دمشق الذي مجده الادب العربي فقد تحول الان الى مجرد مجرى هزيل ذي رائحة كريهة.

وساءت الاحوال حتى أن الحكومة طلبت في الفترة الاخيرة مساعدات دولية وقدمت اعانات نقدية لاسر المزارعين في محاولة لوقف الهجرة الداخلية.

وتعمل منظمة الاغذية والزراعة التابعة للامم المتحدة (فاو) مع الحكومة على وضع خطة زراعية جديدة تشمل مراجعة التكوين المحصولي على مستوى البلاد وتشمل كذلك خطوات لمعالجة مياه الصرف ووقف زيادة نسبة الملوحة وتحسين ادارة موارد المياه.

وقال عبد الله طاهر بن يحيى ممثل الفاو في سوريا “لا توجد وصفة جاهزة. من الطبيعي ان سوريا لا يمكنها الاستمرار بنفس السياسة الزراعية التي كانت منذ عقود… الجفاف خارج عن ارادة الدولة. هناك مساحات شاسعة من الحسكة لم تحصد فيها حبة شعير وهذا مؤلم.”

وكالة رويترز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى