مفهوم المواطنة لدى النظم الاستبدادية وفي الثقافة السياسية
سلمان الخليل
تدعي الأنظمة الحاكمة في العالم العربي بأنها تعمل من أجل الصالح العام، وتسعى لخير البلاد وإسعاد العباد هادفة مصلحة بلدانها ورفاه مجتمعاتها، وتدعي أيضا بأنها قطعت أشواطاً عديدة ومسافات مديدة في مسيرة الإصلاح والتطوير. بالطبع تهدف هذه الأنظمة من ادعاءاتها إثبات شرعيتها وضمان استمراريتها، لكن هل هي حقاً شرعية ؟
إن شرعية أية سلطة سياسية تنبع أولاً وأخيراً من مدى التزامها واحترامها لمبادئ وقيم المواطنة وتوفير شروطها، لأن المواطنية هي الضرورة الحتمية للديمقراطية وقاعدتها الأساسية، لأنها تعني ضمان الحقوق القانونية والسياسية لكافة المواطنين بغض النظر عن انتمائهم الاثني أو الديني أو الاجتماعي ومفهوم المواطنة كما تشير دائرة المعارف البريطانية هي علاقة بين الفرد والدولة كما يحددها قانون تلك الدولة متضمنة مرتبة من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ عليه حقوقاً سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة، أي إن المواطنة هي مجموعة من الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يكتسبها الفرد فعلياً وقانونياً من خلال عضويته في مجتمع معين على قاعدة المساواة مع بقية أفراد المجتمع، ويستند مفهوم المواطنة إلى ركيزتين أساسيتين هما: المساواة والحرية، فالمواطنة تنطلق من ثنائية الحقوق والواجبات وضرورة المساواة بينهما باعتبار المواطنة هي ركيزة الديمقراطية وهي تهدف إلى تحقيق المساواة التامة لكل أفراد المجتمع على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم، وهذه المساواة تتجلى في أبهى صورها من خلال فكرة سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحرياته بغض النظر عن جنسه أو دينه أو عرقه أو لونه، ويأتي مفهوم المواطنة نسبة إلى الوطن والانتماء إليه ويترتب على ذلك حقوق وواجبات ولكن هذه الحقوق والواجبات ليس بمقدور أفراد المجتمع ممارستها إلا في ظل سلطة سياسية عادلة ويتجلى ذلك سياسياً في إيجاد دستور ديمقراطي يتضمن صون الحريات العامة ويقر بمبدأ التعددية، وقانونياً يتجلى في مبدأ سيادة القانون واجتماعياً يتجلى في ترسيخ قيم العدالة والمساواة واقتصادياً يتجلى في مبدأ تكافؤ الفرص وأخلاقياً يتجلى في تنمية الحس المدني لدى أفراد المجتمع من خلال إخلاصهم لثنائية الحقوق والواجبات وتغليبهم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية، وبأن المصالح الخاصة لا تتحقق إلا من خلال تحقيق المصلحة العامة وحمايتها، كما يمكن توضيح مفهوم المواطنة ببعض النقاط الجوهرية التي تطبقها عملياً الكثير من الدول الديمقراطية حسب ما يرى بعض الباحثين:
1 – إن المواطن هو عضو مؤسس في تكوين المجتمع السياسي الذي ينتمي إليه.
2 – إن الحياة الاجتماعية والسياسية هي حصيلة عقد ينظم حقوق المواطنين وواجباتهم.
3 – إن المواطن هو طرف في هذا العقد مع ما يترتب على ذلك من حقوق وواجبات وسلطات.
4 – إن السلطة السياسية في الدولة ليست ملكاً لأحد، كما إنها ليست هبة من أحد، ولا هي حق إلهي، إنما هي وظيفة موكولة بالتعاقد، هدفها ومدتها وحقوقها وواجباتها مرسوم بالعقد.
5 – إن الشعب هو مجموع المواطنين في الدولة، أي إن الشعب هو مصدر لجميع السلطات العامة في الدولة.
6 – إن القوانين الصادرة من السلطات الدستورية في الدولة هي في حقيقتها تعبير عن إرادة المواطنين، فإذا لم تكن كذلك تصبح هذه السلطات في وضع المخالف لأحكام العقد، فيقع الظلم وفي هذه الحالة يستوجب تغيير هذه السلطات.
7 – إن على المواطن واجبات تجاه الجماعة وتجاه مؤسسات الدولة، يتوجب عليه القيام بها تحقيقاً للمصلحة العامة.
بعد هذه الإطلالة على مفهوم المواطنة وعناصرها وقيمها نحاول التوقف عند حال المواطن في مجتمعاتنا وكيف تنظر الأنظمة الحاكمة في بلداننا إلى هذا المواطن هل تعامله حسب مفهوم المواطنة أم انطلاقاً من حسابات أخرى لا تمت بصلة إلى قيم المواطنة ومبادئها.
إن غالبية الأنظمة الحاكمة في العالم العربي لا ترى في أفراد المجتمع على إنهم مواطنين لهم حقوق يجب أن تصان وتحترم بل ترى إن عليهم واجبات فقط يجب أن يؤدوها.
بالطبع من البديهي أن يقوم المواطن بواجباته كاملة مثل دفع الضرائب والالتزام بالقوانين والتشريعات والدفاع عن الوطن والمحافظة على الأملاك العامة وما إلى ذلك من أمور تفصيلية تندرج في قائمة الواجبات وهي ضرورات تقتضيه مصلحة الدولة للحفاظ على أسباب البقاء وعلى مبدأ العيش المشترك ومبدأ المصلحة العامة.
إن أفراد مجتمعاتنا يدركون أهمية هذه الواجبات ويلتزمون بها، لكن في الجانب الآخر بالنسبة إلى الحقوق التي أكدت عليها جميع المواثيق الدولية وتضمنتها الدساتير المحلية لدولنا رغم نواقص هذه الدساتير، لكن السلطات الحاكمة في بلداننا لا تلتزم باحترام حقوق المواطنين المكفولة في الدستور بل تعاملهم على إنهم مواطنون ناقصي الأهلية ولا يستحقوا أن يعاملوا باحترام وينظر إليهم وفق رؤية استعلائية فوقية استعبادية واستبعادية، أغلب حقوق المواطن غير متوفرة من أهمها حق الحرية، فالفرد في مجتمعاتنا معرض في أي لحظة للاعتقال دون أسباب وجيهة في ظل غياب القانون ووجود حالة الطوارئ والأحكام العرفية، وحق المساواة لا تعترف به السلطة لسياسية التي تميز بين مواطنيها حسب ولائهم وخنوعم لها أو بمقدار الجاه أو المال الذي يملكونه، وحرية الرأي والتعبير للمواطن تعتبر جريمة في نظر السلطة فما بالك من حرية تأسيس الأحزاب والجمعيات المدنية والمشاركة السياسية ناهيك عن غياب حقوق المواطنين في الضمان الصحي والاجتماعي هذا عدا عن عدم توافر فرص متكافئة للمواطنين للحصول على أعمال تناسب قدراتهم وإمكاناتهم ومؤهلاتهم، وأيضاً حق السكن غير متوفر للمواطن البسيط الذي يقضي جل عمره بحثاً عن سكن لائق من أجل تكوين عائلة والتي هي الوحدة الأساسية في بناء المجتمع.
إذاً المواطن في مجتمعاتنا يعيش في ظل أنظمة وحكومات سلبته كرامته عندما صادرت حقوقه وحرياته، المواطن يعيش في ظل غياب الضمانات القانونية والاجتماعية في ظل غياب الحرية والمساواة والعدالة في ظل غياب المواطنة الفعلية، فالمواطنة ليست مجرد شعاراً يردد من قبل أبواق هذه الحكومات، ولا قراراً تصدره الجهات الإدارية لهذه الحكومات إنما المواطنة هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات.
إن استخدام أساليب القمع والقهر واستسهالها من قبل الأنظمة الحاكمة وانتهاكها لحقوق الإنسان سوف تؤدي إلى تعميق الهوة بينها وبين مجتمعاتها وعدم قدرتها على مواجهة التحديات الخارجية، لأن مواجهة تحديات الخارج ومشاريعه لا يتم عبر قهر المواطنين ومصادرة حقوقهم، فالإنسان المقموع والمقهور والمسلوب الإرادة لا ينمو لديه حس المواطنة لأنه باسم الوطن وفي ظل الشعارات الوطنية الفضفاضة تصادر حريته و تسلب كرامته.
صحيح إن الأنظمة الحاكمة في بلداننا لا تعترف بمفهوم المواطنة وتنتهك حقوق مواطنيها نهاراً جهاراً وتضع العثرات أمام الآليات الديمقراطية فإن مجتمعاتنا هي أيضاً تتحمل الكثير من المسؤولية فيما آلت إليه أوضاعها من تراجع وبؤس وشقاء, هذه الأوضاع المأساوية لمجتمعاتنا هي أيضاً نتاج الثقافة السياسية السائدة فيها, التي أدت ومازالت تؤدي إلى ترسيخ وتكريس الأنظمة الاستبدادية التسلطية وتقف حجرة عثرة أمام عملية التحول الديمقراطي وصولا ًإلى تعزيز مفهوم المواطنة وترسيخ قيمها, إن الأنماط السلوكية والقيم الأخلاقية التي تشكل الثقافة السياسية التي يحملها المواطن بمجملها سلبية, بالمحصلة تؤدي إلى عدم إدراك المواطن لحقوقه, تالياً تعزز البنى التسلطية في المجتمع , يعرف العالم الأمريكي ” جبرائيل ألموند ” الثقافة السياسية بأنها: (( مجموعة توجهات السياسية والأنماط السلوكية التي يحملها الفرد تجاه النظام السياسي ومكوناته المختلفة وتجاه دوره كفرد في النظام السياسي )) ويرى هذا المفكر إن توجهات الأفراد تجاه النظام السياسي تتحدد من خلال ثلاثة أبعاد:
1 – البعد الأول: الإدراك: ويعني مدى معرفة الأفراد للنظام السياسي والبنى التي يحتويها والأدوار السياسية في جانبي المدخلات والمخرجات.
2 – البعد الثاني: المشاعر التي يحملها الأفراد تجاه النظام السياسي.
3 – البعد الثالث: التقويم: ويعني الأحكام والآراء التي يحملها الأفراد تجاه النظام السياسي والأدوار السياسية المختلفة وتقويمهم لأداء النظام السياسي, ويؤكد أنه يمكن تحديد وقياس الثقافة السياسية لأي مجتمع من خلال معرفة مدى إدراك وشعور وتقويم الأفراد لأربعة جوانب أساسية وهي:
أ – النظام ككل ( الحجم – الموقع – الشكل الدستوري ).
ب – جانب المدخلات ( الأفراد والجماعات والبنى – والعمليات السياسية التي يتم من خلالها تقديم المطالب المختلفة إلى السلطات لتحويلها إلى قرارات ملزمة.
ج – جانب المخرجات ( كيفية وضع وتنفيذ السياسات العامة في المجتمع وما هي البنى التي تقوم بهذه العملية
د – الجانب الرابع: دور الفرد ( ما هو الدور الذي يلعبه الفرد في الحياة السياسية, وأي المعايير يستخدم لتكوين آراءه حول النظام السياسي وتقويمه لجوانبه المختلفة, ومدى معرفته لحقوقه وواجباته وقدراته السياسية وكيفية المشاركة في الشأن العام ).
من خلال معرفة كيفية توزيع هذه الأبعاد ( الإدراك , الشعور , التقويم ) يمكن الخروج بثلاثة أنماط من الثقافات السياسية كما يبين “ألموند ” وهي الثقافة السياسية المشاركة, الثقافة السياسية التابعة, الثقافة السياسية المحلية ( الضيقة ).
من خلال هذا التحديد لأنماط الثقافات السياسية فأنه يمكن القول بأن الثقافة السياسية السائدة في مجتمعاتنا تعكس بشكل جلي خصائص الثقافة السياسية التابعة ( ثقافة الراعي والرعية ), إن مجتمعاتنا تتبنى قيم سلوكية وأخلاقية تتماهى مع القهر والتسلط المفروض عليه بل وتبرر التسلط الذي يعيشه وتتملك هذه المجتمعات بشعور العجز وانعدام القدرة على التغير, الفرد في مجتمعاتنا ما زال أسيراً لقيم اجتماعية سلبية مثل الطاعة والامتثال والرضوخ, والخوف من التعبير عن رأيه, وسيادة روح الاتكالية, وعدم تقبل النقد والحوار وعدم احترام الرأي الأخر, إن هذه المكونات من أنساق القيم ونماذج السلوك هي خلاصة التنشئة الاجتماعية التي تؤثر في الأفراد عبر مؤسسات مجتمعية عديدة تبدأ بالأسرة مرور بالمدرسة إضافة إلى المورث الديني والعادات ….. التي تحمل في مضامينها المعرفية ثقافة تقليدية ذات أفكار وتصورات عن المرأة والسلطة والمعارضة والخضوع والعصيان والغنى والفقر….. تتنافى وتتناقض مع قيم المواطنة والديمقراطية التي تدعوا إلى المساواة وصيانة الحريات وأهمية العمل الجماعي وحق الاختلاف في الرأي والتعددية.
مما تقدم يمكن أن نخلص إلى إن الثقافة السياسية السائدة في مجتمعاتنا هي ثقافة تابعة رعوية سلبية, تقوم الأنظمة الاستبدادية بتغذيتها بثقافة الرداءة و الانحطاط من خلال عملية فساد وإفساد منظم للمجتمع من خلال شرعنه الأنماط السلوكية السلبية الملائمة للاستبداد كالرشوة والمحسوبية والانتهازية والوصولية وتقديس المصلحة الخاصة. والنفاق والرياء والتملق وانهيار قيم العمل على حساب الكفاءة والمشاركة وتقديس المصلحة العامة.
إن بقاء الأنظمة السياسية الحاكمة أسيرة لعقليتها التسلطية القمعية الاستبعادية تجاه مواطنيها, وكذلك بقاء مجتمعاتنا على ثقافتها التابعة الغير مفيدة, سوف تؤدي بدولنا ومجتمعاتنا إلى تدهور في كافة الأصعدة وبالتالي الخروج من التاريخ والانقطاع عن حركة التطور.
إن ما نحتاج إليه هي إرادة التغير وذلك بتوفير الشروط اللازمة من خلال احترام الحرية العامة والفردية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية وبناء المؤسسات الدستورية وهذا يعني تهيئة المناخ لتحقيق مفهوم المواطنة والاعتراف بمبادئها وتوفير شروطها وهي الخطوة الديمقراطية الأولى والضرورية في تحريك مكامن القوى عند الأفراد والمجتمعات.
المرصد السوري