صفحات مختارةطيب تيزيني

بين التنوير والسلفية

د. طيب تيزيني
يمرّ الفكر العربي بمرحلة من الطفح بالمصطلحات والمفاهيم، الوافدة خصوصاً، وهذا مفهوم بذاته، نظراً لدخول العالم في عصر جديد يحاول أن يقلب عالِيه سافله، ضمن وتيرة متباطئة أحياناً وصاخبة عاصفة أحياناً أخرى. فبعد بروز الحدث المركّب الكبير النظام العالمي الجديد في العٍقد الأخير من القرن المنصرم وهيمنة وقْعه الكاسح في المعمورة لمرحلة لم يصل عمرها إلى العٍقدين، أخذنا نواجه حدثيْن جديدين ربما أتيا رداً عامراً بالآمال عليه ومن داخله، نعني الأزمة المالية ووصول أوباما إلى البيت الأبيض. وبقدر ما أحدث هذان الحدثان من دويّ فُهِم على أنه أنه يتجه خارج السِّرب العولمي إن لم يكن مضاداً له، راحت كثيرٌ من المواقف السياسية والنظرية والقيمية والأيديولوجية تعيش حالة من الاضطراب والفلتان. انطلقت هذه الحال في كل التشكلات السياسية والمنظومات والمواقف المذكورة.
فنحن نواجه مثالاً نقرأ فيه حالة من تكسير السياقات والخصوصيات لعددٍ من مراحل التطور التاريخي في الشرق والغرب، ومن إلغاء الخصوصيات لمجموعة من المصطلحات، بحيث يقودنا ذلك إلى الاعتقاد بوحدة الأشياء تحت حدٍّ حاسم هو الرأسمالية الأميركية. فالدكتور شريف حتاتة يكتب في بحث له بعنوان: تصارعوا أو تحاوروا، ولكن لا تقربوا الدولار (فكر ما بعد الحداثة) – نشر عام 1997 في كتاب بعنوان (صراع الحضارات أم حوار الثقافات)، القاهرة، مؤكداً على ما يلي: \”لا يوجد فارق جوهري بين رأسمالية أميركا المسيحية وحضارتها الغربية، وبين رأسمالية النفط الإسلامية العربية، وحضارتها الشرقية، وبين التنوير والسلفية، ففي الحالتين لا تنال الشعوب حقوقها. وفي الحالتين، لا تتحرر النساء أو الرجال أو الفقراء من القهر الأبوي الطبقي\”.
ويهمنا هنا مما سُقناه تلك العلاقة الثنائية بين التنوير والسلفية، فبحسب الدكتور حتاتة، تغيب الحدود والفروق بين الحالتين المذكورتين تحت مظلة الرأسمالية، ويمكن للحالة الأولى أن تشغل موقع الثانية، كما يمكن لهذه أن تشغل موقع تلك. وقد نلاحظ أن النظر إلى الأمور على هذا النحو يفضي إلى حالة من اضطراب الحدود المفاهيمية المنطقية، ومن اختلاط الدلالات والمعاني، التي تحملها هذه الحدود.
وفي هذه الحال، يطرح السؤال نفسه: كيف لا يوجد فرق جوهري بين التنوير والسلفية، حتى لو طُرح هذا السؤال في ضوء ما يُظنّ أنه معيار له في الإجابة، وهو تحديد العلاقة الجوهرية بين الرأسمالية \”الأميركية المسيحية\” والأخرى \”النفطية العربية الإسلامية\”؟ وقبل الدخول في تفكيك الحدود المختلفة بين المصطلحين المذكورين، نودّ القول مع الدكتور حتاتة: نعم، ليس الحسم العلمي والسوسيوثقافي والسياسي بين التيارين الإيديولوجيين هو بداية الموقف ونهايته على صعيد الصراع بين الرأسمالية ومنظومة الحقوق الإنسانية الشعبية في العدالة والتقدم والسلام في العالم أولاً، ولا يتماثل حسم المشكلات في حقل هذين التيارين مع حسم الصراع بين الفريقين السابقين. هذا صحيح وينبغي التشديد عليه، خصوصاً، مع انتشار أوهام كبرى في هذا الحقل، مثل استخدام مصطلح \”المجتمع المعرفي\” وإقصاء مصطلح \”المجتمع الاستغلالي\”.
وقد يصح القول إن تحليلاً سوسيونفسياً لفعل الكتابة لدى مجموعات من الكتاب العرب الملتزمين بمصالح الجماهير العربية الكبرى، يمكن أن يضع يدنا على حالة من النزق والغضب تقتصر عواطفهم، وذلك على نحوٍ يغيّب ما هو دون الهدف الكبير، الذي يجعلون منه موضوع بحثهم. وفي ضوء هذا، قد نرى أو نفترض أن الدكتور حتاتة كاتب البحث المعني، لم يُردْ الوصول إلى الصيغة التعميمية، التي وصل إليها في بحثه. ولكن آلية الكتابة، في مثل هذه الحال، تفرض نفسها ضمناً.
والحق، إن التنوير والسلفية طرفان متناقضان في المنهج والنظرية، فالأول منهما يقوم على اجتراح المواقف والرؤى والأفعال، التي تفتح الآفاق وتنور العقول وتُلهب العواطف بوهج الحرية وتُنتج الشجاعة الحكيمة في الدفاع عن حقوق البشر، وفي مواجهة الظلامية حيث تكون. أما السلفية فتؤسس، في البدء، في الاستجابة الكاملة لشعارها الذي وضعه مؤسسوها، وهو: الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف، بحيث إن الأجوبة التي يسعى أولئك للوصول إليها يبحثون عنها -مع الأسئلة نفسها- في مرحلة هي غير مرحلتهم، ولدى رجال لم يعيشوا معهم. وفي هذا وذاك، يصح إبراز الكلمة البديعة والعميقة، التي أطلقها الخليفة العظيم عمر بن الخطاب على صعيد ما نحن بصدده، علّموا أولادكم غير ما تعلمتم، فإنهم خلقوا لغير زمانكم!
جريدة الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى