الحداثة كخير عام، كوني وضروري
ياسين الحاج صالح
عسر تعريف الحداثة قد يكون وجها من أوجه هذه الظاهرة الدينامية الجموح التي لا تقر على حال ولا تنضبط بحد. لكن لا بد لمن يتكلم عليها من توضيح مراده بصورة ما. لنقل إن الحداثة طاقة تشكيل واتصال توسعية، لا تكف عن تصغير العالم المحسوس الذي وجد الإنسان نفسه فيه وتوسيع العالم المعقول الذي أنشأه بنفسه. وإذ هي تكسر تطابق كل شيء مع ذاته، تحل كل هوية مستقرة، فإنها تلزم كل شيء بأن يستعيد مطابقته لذاته على أرضيتها، فلا يكون الشيء نفسه إن لم يكن حديثا. وقد يناسب القول أيضا إن الحداثة نظام الإنسان وعدالته ومعرفته وعمله، تمييزا عن نظم وعدالات ومعارف وأعمال أخرى، طبيعية وإلهية.
لكن النقطة التي سنحاول بيانها هنا أن الحداثة أساس ضروري لكل ثقافة واجتماع وسياسة ودين في عصرنا. إن الغفلة عنها أو مناهضتها أو الانغلاق دونها تفضي إلى انحلال عام، إلى تفكك الثقافة ويباس الدين والانحلال السياسي. هذا لأن الحداثة هي الروح المتوثبة التي تتملك العالم الحديث فلا يعيش بغيرها، وإن كان يعيش بها كالممسوس. ورغم تناقضها واختلاطها، وبفضل انفتاحها الكلي، فإن الحداثة أيضا المصلحة العامة الشارطة لكل مصلحة أخرى. ما من شيء صالح ضدها أو خارجها، وإن لم تكن هي ذاتها صلاحا محضا.
وليس هذا الكلام من باب مديح الحداثة أو التحمس لها، بقدر ما هو محاولة لتبين صفتها الضرورية الجوهرية. الحداثة ليست إيديولوجية نرفضها أو نواليها، وإن كان ثمة إيديولوجيات حداثية، أو حتى إن أمكن لبعضنا جعل الحداثة إيديولوجية تقف إلى جانب أو ضد إيديولوجيات أخرى. فكما أنه منذ أن نشأت اللغة لم يعد ممكنا بقاء إنسانية غير ناطقة أو حائزة على لغة خاصة، لم يعد ممكنا العيش بمعزل عن الحداثة. وكما أن اللغة خير عام كوني وضروري، مقوم للإنسانية ذاتها، فإن الحداثة اليوم كذلك. وأية مؤسسات بشرية تبقى في منأى عنها أو تزين لنفسها مناهضتها تحكم على نفسها بالانعزال ثم بالتلاشي.
يتعين استيعاب هذه القضية جيدا. لا خارج للحداثة إلا الموت. ولا حياة إلا داخل الحداثة وبها. وهي على كل حال ليست مسألة اختيار. نحن منذ الآن من الحداثة وفيها. ما قد يكون مسألة اختيار هو الإعدادات الثقافية والسياسية والاجتماعية الأنسب لتحويلها من سيل خام جارف إلى نظام وثقافة وإنتاج.
ولعله ليس هناك مؤسسة اجتماعية وثقافية في العالم العربي أحوج إلى تبين وتمثل الخيرية الجوهرية والكلية للحداثة من الدين والتدين الإسلامي. الحداثة مصلحة عامة إسلامية، كما هي مصلحة عالمية، وبقدر ما إن الإسلام من العالم، تقريرا ووجوبا. إنها واجب لأنها مما لا يتحقق الواجب إلا به. وهي واجب أساسي، بل أساس كل واجب، لكونها اليوم عقل العالم الإنساني ونظامه، “مناط التكليف” الإنساني. ولعله يسعنا القول إن الحداثة أعدل الأشياء قسمة بين الثقافات والمجتمعات، على أن يفهم هذا القول لا كتقرير لواقع محقق بل كطاقة تحقق تاريخية أكيدة. ويوجب كون الحداثة عقل العالم على المسلمين عموما، والمشتغلين منهم بالشأن الديني خصوصا، موقفا، لا نقول أقل حذرا وأكثر انفتاحا حيال الحداثة، بل تام الانفتاح عليها. على أسسها الفكرية والثقافية والفلسفية بصورة خاصة، كما على نظمها السياسية والاقتصادية والأخلاقية والمعرفية، المتفوقة بلا جدال على غيرها.
الشيء الذي ربما يتعين أن يراه مثقفو المسلمين أن الحداثة خصم عنيد للوثنية، للأصنام، بل هي الخصم الجذري لها (وإن دون تعال)، إلى درجة أن كل مناهضة للوثنية منقطعة عن الحداثة تجازف بأن تكون قناعا لوثنية متجددة. خارج الحداثة ثمة أشياء ثقيلة، تعاليم وحروف ميتة، أوثان و”طواغيت”؛ داخلها فقط ثمة الفكر والروح والعقل والمعنى. هذا لا يصنع توافقا ناجزا بين الإسلام والحداثة، فهذه متمركزة حول الإنسان والأرض لا حول السماء والخالق، حول حرية الإنسان مقابل حرية الله، لكن معناه أن هناك مساحة تقاطع بينهما تتيح للإسلام تجديد روحه العميقة المضادة للأصنام، وربما تسهم في إعطاء دفع جديد يحرر الحداثة من التملك الفئوي لها على الصعيد العالمي، أعني مطابقتها مع الغرب أو جعلها هوية غربية. هناك بالمقابل مساحة توتر ونزاع بينهما (بين الحداثة وكل دين..)، لكن إسلاما منقطعا عن الحداثة ومركزيتها الإنسانية يبتعد أكثر عن السماء والإلهي ولا يقترب منهما. هذا، مرة أخرى، لأن الحداثة هي خير الإنسانية العام، أو إن تكلمنا بلغة هيغلية هي الشكل الأكثر تطورا للروح في العالم الأرضي.
إلى ذلك تفسر الحداثة أوضاعنا الراهنة بصورة منصفة، منكرة كل عنصرية من المبدأ، فلا تقر بنقص المسلمين عن غيرهم، وإن أنكرت عليهم بالمقابل التفوق على غيرهم. ومثل ذلك على صعيد العمل. فلا تقر الحداثة بحائل جوهري يحول دون انصلاح أحوال المسلمين ومنافسة غيرهم في ميادين الإنجاز البشري كلها، ولا تقبل بلعنات أصلية أو فساد أصلي أو معجزات خاصة أو تفوق أصلي.
أهم من كل ذلك أن “الإسلام” الذي أفقدته الحداثة تطابقه مع ذاته (وهذا معطى نهائي وغير عكوس)، لن يستعيد هذا التطابق على غير أرضية الحداثة. هذا لأن المسلمين في الحداثة، طبعا وحتما. فصل الإسلام عن المسلمين من أجل صون تماثله مع ذاته لا يجدي. وهو بعد فعل سياسي، يجعل “الإسلام” أقنوما مطلقا، متماثلا مع ذاته دوما، متعاليا على حياة المسلمين وآلامهم وأشواقهم، ومطهرا من التاريخ. أقنمة الإسلام سياسة مجموعات تطلب لنفسها سلطة مطلقة، لا تقبل تفاوضا ولا ترضى بما هو دون الرضوخ التام لسلطانها. أما انفصال “الإسلام” والمسلمين معا عن الحداثة فمما لا يطال. فإما انفصال “الإسلام” عن المسلمين، ليعيشوا غربة مزدوجة: عن إسلام أقنومي متصلب، وعن حداثة برانية لكن لا خارج لها؛ أو اتصالهما معا بالحداثة وفيها، إقامة علاقة مشاركة وتفاعل وصراع مع الحداثة، لا تستعاد هوية “الإسلام” أو تطابقه مع ذاته إلا عبرها.
وبقدر ما إن “الإسلام”، اليوم، هو شكل الثقافة الأوسع انتشارا ومعيار الحكم الأخلاقي المقبول على نطاق واسع في بلداننا، بقدر ما إنه أيضا العائق الأشد كؤدا أمام انتشار الحداثة، فإنه القوة التي لا مناص من الاشتباك الفكري والسياسي والنفسي معها من أجل تملك الحداثة والانخراط فيها من موقع أكثر تفاعلا وفعلا. الحداثة ممكنة في مجتمعاتنا دون هذا الاشتباك، المديد. نحن منذ الآن فيها ومنها كما قلنا، لكن حداثتنا مشتتة، قطاعية، خام وغير عاقلة، ذات قابلية عالية للأدلجة، وعاجزة تكوينيا عن وعي ذاتها. تملك الحداثة اجتماعيا والانخراط الواسع في عمليات إنتاجها والعيش فيها، أي دمقرطة الحداثة ونزع سمتها الإيديولوجية، يمر بصورة تفضيلية عبر صراع متعدد الوجوه والإيقاعات مع “الإسلام”. هل من سبيل إلى تعميم الحداثة وإلى تحولها منطقا ذاتيا للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية..، إلى ثقافة، دون ذلك؟ أشك في ذلك. وسألاحظ أنه يعترض على فكرة “الصراع مع الإسلام” طرفان، الإسلاميون أنفسهم، ثم أصناف من الحداثيين يبدون لي الأكثر جنوحا إلى أدلجة الحداثة وتملكها الشخصي والفئوي وإنكار طابعها الصراعي هي ذاتها. أولئك لا يفرطون برأسمال يتربحون منه سلطة ونفوذا عامين، وهؤلاء لا يفرطون برأسمال يجنون منه امتيازا ونفوذا خاصين.
من هذا الباب ربما يلزم الإلحاح على نزع ملكية الإسلام من يد الإسلاميين من أجل خصخصته، كما نزع ملكية الحداثة من المنسوبين إليها من أجل تعميمها. الحداثة خير عام، فيما الإسلام خير المسلمين. يمكن للإسلام أن يكون في الحداثة، جزءا منها؛ أما العكس فممتنع. أسلمة الحداثة لا معنى لها.
يبقى أن الحداثة عملية متناقضة ومختلطة، وتملكها فعل صراع لا اعتناق. وهي تتقاطع لدينا بمساحة واسعة مع “الصراع مع الإسلام”، لكنها لا ترتد إليه ولا تتطابق معه. ثمة أيضا الصراع مع تشكلاتها الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية القائمة، هذه التي تجمع بين النخبوية والاستبداد، كما مع تشكلاتها الدولية، النخبوية والمستبدة بطريقتها.
خاص – صفحات سورية –