صفحات مختارةموفق نيربية

آفات المعارضة الديمقراطية: الاستراتيجية والتكتيك

null
موفق نيربية
لم يصل إلينا الكثير عن مزدوجة الاستراتيجية والتكتيك بقدر ما وصل نقلاً عن فلاديمير إيليتش لينين، قائد ومنظِّر الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية. خلاصة ما كان يقوله إن الحرية السياسية- أو الديمقراطية البرجوازية- إن تمّ اعتمادها في ظروف ضعف قدرة الطبقة العاملة أو حزبها، يمكن أن تكون جسراً إلى الجماهير وللدعاوى الثورية، حتى تحقيق مقومات أو إمكانات الثورة. وكان واضحاً، أنه ليس هنالك أي ضمانة بأن تبقى تلك الحرية والديمقراطية موجودة بعد استنفاد الغرض التكتيكي منها. وقد استغلت الدول الغربية هذا الطرح حتى فترة قريبة، بتخويف الناس من الشيوعيين، حتى لو أقسم هؤلاء الأيمان المغلظة بإخلاصهم للديمقراطية وتعهدّهم بالحفاظ عليها. يحدث مثل هذا في هذه الأيام مع الإسلام السياسي أيضاً، مهما بلغ اعتداله. في بلادٍ كبلادنا؛ مازالت حالة الوعي الاجتماعي- والفكري كذلك- لا تزيد كثيراً على تلك السائدة في روسيا المذكورة؛ تختلط الاستراتيجية بالتكتيك بطريقة معقدة، لكنها بادية وقاصمة أحياناً. وعلى مبدأ لينين نفسه، تتقدمّ «الثورة» على الديمقراطية، لتغدو هذه حينذاك هشة وسطحية لا تخترق القشرة الاستبدادية القاسية الموروثة، ولا تستطيع تغيير العادات وقواعد السلوك باتّجاه مختلف. وحين يمرّ مثل هؤلاء الديمقراطيين بأيّ منعطف، يخلعون «أوفرول» العمل وعدّته، وتتقدّم ثوريتهم وعصبيتهم إلى الواجهة.
للأسف الشديد، يحدث هذا- تقريباً- مع الجميع، من القوميين إلى الاشتراكيين إلى الدينيين، إلى الليبراليين أنفسهم. في مثل هذه الحالة تعاني المعارضة الديمقراطية طويلاً حتى تتحوّل ديمقراطية بالفعل، ويتغلّب الآنيّ والباطني المضمر على السلاسة التي تصبغ أي حركة نضالية أو أخلاق ديمقراطية. ورغم أن العمل السياسي غنيّ بتكتيكات للنجاح في جذب أكبر مقدار من المؤيدين، وخصوصاً للحفاظ على الدائرة المعينة حول القيادة أو القائد المعارض، إلاّ أن تغليب المعيار والمصلحة الأكبر دائماً، والاعتراف بهما كأساس قادر على إسقاط القيادة أو المنظمة؛ ومن ثمّ إفشال الحركة؛ هو ما يجعل من ممارسة التكتيكات الذاتية أمراً مشروعاً. فحين يجعل القوميون (عرباً أو أكراد أو غيرهم) من الديمقراطية مجرّد جسرٍ إلى تحقيق الهدف القومي؛ من تحرير أو وحدة أو انفصال؛ يُضعفون الحركة ويقعون في مطبّ حتمي. كانت النازية سباقة إلى ذلك في أوائل الثلاثينيات، وجرّت بلادها إلى ويلات حرب طاحنة.
وحين يجعل الاشتراكيون من مطلبِ الديمقراطية طريقاً مؤقتاً وملتبساً إلى الاشتراكية، أو إلى القضاء على الإمبريالية، وتحقيق النصر للطبقة العاملة؛ التي غارت وتحوّلت خصائصها التاريخية؛ يثبتون عجزهم عن تمثّل الحريّة والديمقراطية كالتزام نهائي توصّل إليه اشتراكيون آخرون، غير الذين ثبُت فشلهم في العقود الأخيرة. أمّا حين يجعل إسلاميون سياسيون من مطلب سيادة القانون وسيلة لتطبيق الشريعة الكليّ بعد ذلك، أو من «الدولة المدنية» تخريجاً سوف تتشكّل منه «الدولة الإسلامية»، أو من الديمقراطية جسماً مشروطاً- مباشرةً أو فيما بعد- بتنويعات على «ولاية الفقيه»؛ لا يمكن لديمقراطيتهم أن تنتج وتلقح في الأفق المنظور، فتتراجع أمام أيّ طارئ. عكس هذا السياق صحيح أيضاً. لكن الأمر الأكثر صعوبةً على الاستيعاب، هو سقوط الليبراليين في مثل هذا، الذي يتجلى بشكل بيّنٍ حين تتقدّم العلمانية وتنتفخ لتخفي خلفها معالم الديمقراطية، ويصبح الاستبداد «العلماني» أفضل من المكتسبات على طريق الحرية بأشكالها. لكنه يحدث بشكل أقلّ وضوحاً حين تكون الديمقراطية لدى الليبرالي- وهي جديدة عليه على كل حال- مجرّد نقيض للاستبداد الذي اكتوى بناره طويلاً، وبالتالي مجرّد جسرٍ ومشاكسة تهدف إلى هدم بنية الاستبداد، حتى لو كانت نتيجة ذلك هيكلاً خرابا. صعوبة بلع هذه الحالة تأتي من أن الليبرالية أساساً جزء مكوّن رئيس من الديمقراطية، لكنها تتحول هنا إلى مجرّد إيديولوجيا، وتنضمّ إلى الإيديولوجيات المذكورة أعلاه. إذا اجتمع ذلك إلى الحدود التي تضعها السلطة الأبوية، وتخترع لها أسماء مختلفة مثل المصلحة الوطنية أو الحفاظ على الخصوصية أو الخطوط الحمر، وتطبّق العقوبات بين حينٍ وآخر لتليين صلابة معارضيها، لا تستطيع المعارضة الديمقراطية أن تتحوّل إلى حالةٍ جديرة باسمها، وقادرة على التعامل مع الزمان وأهميته، والمعاصرة وإلحاحها.
ربّما انطبق هذا على أي حالة معارضة أو انشقاقٍ في منطقتنا، لكنه أكثر وضوحاً في البلدين اللذين اتّحدا قديماً، في مصر وسورية، مع الاعتراف بالفروق بينهما أيضاً، لكنه ينطبق خصوصاً على معارضة سورية الديمقراطية، التي لا بدّ من احترام معاناتها مع القيود والحدود المتتالية منذ نصف قرن تقريباً، لكن ذلك لا يعفيها من النقد والتقييم والبحث المتكرر، مثل موضوع هذا المقال، فيما لو لوحظ ذلك.

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى