محمد عماد محوك: أنا مجرد أداة لإظهار هذه الكلمات إلى النور
صخر الحاج حسين
يجب أن يكون نظيفاً من الداخل حين يجهز للخط
في واحدة من رحلاته المتكررة إلى سوريا أجرى الباحث البريطاني ماريوس كوشيجوسكي لقاء مع محمد عماد محوك أحد ألمع خطاطي العالم الإسلامي قاطبة حيث سلط الضوء على الخط العربي بوصفه تجلياً روحياً وصوفياً. ومن اللقاء خرج هذا الحوار.
ربما كان الدوار الطفيف الذي تتسبب به قلعة حلب، خصوصاً في الليل، هو الدوار الذي يتسبب به ماضي المدينة بأكمله. فالمرء يرى التاريخ الذي لا يمكن الهروب منه أنى ذهب في حلب. تحمله حتى الأحاديث التي تدور على فنجان شاي في المقاهي التي تقع قبالة قلعة المدينة.
قبالة جسر المدخل المرتفع الذي يؤدي إلى القلعة، على بعد أمتار إلى الشرق تقبع المدرسة السلطانية التي أنشأها أحد أبناء صلاح الدين السلطان الظاهر غازي وأكملها بعد موته ابنه الحاكم السلطان العزيز حوالى عام 1225. ومع القلعة في شكلها الراهن، ينتصب الجامع مثالاً رائعاً على العمارة الأيوبية التي تجمع الجرأة والأناقة. كما أنه يجسد واحداً من التعبيرات الأخيرة للفترة المجيدة التي دشنها صلاح الدين والتي سرعان ما تفتتت بحلول عام 1260 بعد موت غازي في نزاعات عائلية. يعد المحراب في قبليّة الجامع الأجمل من نوعه وعند الطرف ثمة مقصورة متواضعة تحتوي على أضرحة غازي وزوجته ضيافة خاتون وابنهما العزيز. وهنا تنتهي السلطة الأيوبية في غرفة صغيرة كما ينبغي لها – ربما – أن تكون. رغم كل شيء عندما توفي صلاح الدين العظيم لم يكن لدية المال الكافي لتكاليف دفنه.
ضمن أسوار المدرسة السميكة يشعر المرء بأنه ابتعد عن العالم وتقلباته. ثمة رجل واحد جعل من ذلك شرطاً لوجوده الذي اقترن بالعمل. فطوال الليل وفي غرفة صغيرة قبالة الساحة الرئيسة يدفع الخطاط محمد عماد قلمه الذي قًدّ من قصبة جاويّة إلى أن يأتي خادم الجامع الذي يبلغ من العمر خمسة وثمانين عاماً يجر الشمس خلفه. الغرفة الصومعة يتخمها الصمت وكل ما يستطيع أن يصل إلى مسامع عماد صوت تنفسه وصرير قلمه على الورقة الذي صنع من قصبة نحيلة من شجرة نخيل جاوية، وهي مادة مشهورة بقوة تحملها. في الغالب يلقب القلم القصبة «بسفير الذكاء». يندغم صوتان في صوت واحد، فكل نفس يأخذه عماد يسجل في مدّ وتكور الحروف التي يرسمها.
أذهلني عندما توضحت لي صورة ما كانت عليه حياة الرهبنة والأديرة في العصور الوسطى. وافق عماد على ما قلت. «إنه الصراع ذاته». وكل ذلك أتى من مصدر واحد، ما يختلف هو الشكل فقط. فهذه الروح المتوهجة هي للجميع، سواء جاءت باسم الإسلام أو المسيحية.» قال لي. عندما سألته إن كان صوفياً قال رغم أنه لا ينتمي إلى أي من المدارس الصوفية فهو يعد نفسه متصوفاً مع القلم. سألته عن عمره، أجاب بأنه يعود إلى أوغاريت عندما أنتجت الأبجدية في حوالى عام 1400 قبل الميلاد هناك. عماد في الخمسين من العمر. صارم يضع نظارتين عصريتين، معتدل في كل شيء، يتوقف كل بضع دقائق ليدخن، منضبط، ليس مهيأً لصروف الحياة اليومية وهمومها، هامة في الخط شامخة، والأمر اللافت أنه ليس لديه أستاذ.
بدأت بسؤاله كيف جاء إلى هذا المكان المقدس.
«هذه الغرفة الصغيرة واحدة من عدة أخرى في الجامع وهو بالطبع مكان مقدس. كان مدرسة نموذجية قديمة حيث كان الصغار يتعلمون الدين والعلوم. لم يعد للجامع الدور الذي لعبه في ما مضى، كجامعة. فالغرف التي كانت تؤوي طلاباً باتت تستخدم الآن مستودعات. تعرفت بمدير الأوقاف بحلب الذي يملك الأرض والجوامع. أعجب الرجل بعملي وتدبر لي في البداية أمر محل عند طرف السوق القديم. رغم ذلك كان هناك الكثير ما يجعل من المرء يصرف انتباهه. فما إن أبدأ بالكتابة حتى يأتي أحدهم ويقاطعني. العزلة ضرورية لهذا النوع من العمل. لذا أعطيت هذه الغرفة مجاناً. هذا المكان يربطني بكل تاريخنا وفي الوقت ذاته، ولأنه معزول عن العالم بجدران سميكة، يبقيني بعيداً عن المجتمع الحديث. هذا المكان المتخم طاقة وحيوية يمنحني السكينة والجو اللازم للحالة الذهنية التي أنشد. لربما كنت في عزلة لكنني لست وحيداً. ليس لدي ساعة هنا. والزمن عندي متوقف لا أشعر بالوقت إلا عندما أعجز عن الإمساك بالقلم. سجادة الصلاة بقربي. في العادة يصلي الناس جماعة، لكن ولأن هذا الحيز يقربني من الله أكثر فأنا أصلي وحيداً. عندما أدخل إلى هذا المعتزل أتوضأ. ولزام على المرء ألا يلمس القرآن من دون وضوء وحتى الصلاة لا تصح من دونه. ويجب أن أكون نظيفاً من الداخل أيضاً أجلو من ذهني كل المشكلات ومتاعب الحياة اليومية. عندما أجهز، أجد التحدي أمامي. وأنا أعرف أبعاد الورقة وطولها وعرضها، رغم هذا كله يبدو الأمر وكأنني أمشي إلى المجهول. تمنحني هذه الغرفة الصغيرة فراغاً غير محدود. عندما أنشغل تماما، أكاد لا أشعر بالكرسي من تحتي. ومن جهة أخرى عندما أكلف بمهمة مأجورة ولا أتفاعل مع الكلمات، أشعر وكأنني سجين، وكأن العالم بدأ ينهار علي».
والدي الخطاط
سألته ماالذي جذبه بداية إلى الخط؟
«ليس هناك من مرحلة أو من نقطة معينة عندما قررت أن أصبح خطاطاً. كانت سيرورة تطور. لكن إن عدنا إلى البدايات، كان والدي موظفاً رغم أنه لم يعتبر نفسه خطاطاً كانت لديه أجمل يد في الدنيا. عشقي الأول للخط جاء من خلال كتاباته. كنت في الخامسة أو السادسة من العمر آنذاك. وكنت أقلده وكان ذلك لعبة رائعة. وأول شيء جميل رأيته في حياتي وهذا ما أتذكره بوضوح، كان حرف «الواو» وهي دائرة مع ذيل.
ثمة حكاية شهيرة تتصل بهذه الحرف السحري. ربما كانت صحيحة أو غير ذلك. لكن كتصوير للارتقاء الذي يقيمه الفنان نحو الله ليس من المفاجئ أن القصة بقيت حية في الدوائر المهتمة بالخط. ما أخبرني به عماد كان من الواضح أنه واحد من تنويعات عدة للحكاية لكنه يتشبث فقط بتفصيل واحد، وهو تفصيله بتفرد سأحاول إعادة تركيبه هنا من مصادر عدة. في عام 1258 غزا المغول بغداد وذبحوا جل بشرها ودمروا قسماً كبيراً من المدينة بما في ذلك المكتبة العظيمة بيت الحكمة التي احتوت على بعض أعظم كنوز الثقافة الإسلامية. رموا في نهر دجلة كتباً كثيرة حتى صبغت مياه النهر بالحبر واستمر ذلك أسبوعاً كاملاً. قيل آنذاك إنه في بقعة في النهر بلغت سماكة الكتب والمؤلفات حداً جعل من جياد المغول تعبر فوقها. في أثناء ذلك كانت المدينة تشتعل، أما أعظم خطاطي عصره، ياقوت المستعصمي، فقد اختبأ في المئذنة وكل ما فعله هناك هو التدرب – كما قال عماد – على حرف الواو. ثمة مصدر آخر يقول انه كتب الآيات القرآنية على قطعة ورق من الكتان. ما لا شك فيه أنه نجا من المذبحة. أما صورة كتاباته على أعلى المئذنة، والتي تقترب قليلاً من الله، فتظهر في عدد من المخطوطات.
«بإمكان المرء أن يمضي شهوراً على حرف واحد ويستكشف كل أبعاده. فقد أمضيت خمسة أو ستة شهور ألف وأدور حول الحرف «نون» – سألني ذات مرة إمام الجامع الى أين انت ذاهب اليوم؟ فقلت له مشتاق إلى الحبيب الحرف النون وربما ألتقيه آخر الليل – إنها مسألة دقيقة. أحياناً وعندما يمد المرء الحرف، ويكوره قليلاً، فلسوف ينتهي في مكان آخر وفي بعد آخر تماماً. وإذا أراد المرء أن يرى كل الجمال في الخط فهو يحتاج إلى أن يقترب من الحروف ليرى كيف تشكل جزءا من عمل جيد. بإمكان المرء أن يرى نفس الفنان حيث انسياب الحبر، وحيث يجمع في مكان واحد أو ينقل إلى آخر. وبإمكانه أيضاً أن يقول كم من المرات توقف عن التنفس قبل أن ينهي كلمة أو حتى حرفاً واحداً. وسيرى أنه بدأ من هنا، ومضى كل الطريق ومن ثم توقف، ولكي يتسيد الشكل، يعود مع أكثر النقاط دقة للقلم لينتج تلك الأطراف المظلمة». قال عماد «لا يمكن لأي خطاط أن يتخيل أي موقف من دون إرشاد لسيد. فلا يحتاج المرء سوى للمحة على السير الذاتية للخطاطين الكبار ليتأكد بأنهم يشكلون جزءاً ثابتاً من سلسلة طويلة من اكتساب المعرفة. وبوصفهم طلاباً عليهم أن يمارسوا التقليد وفقط بعد إكمال تلك الدراسات يتمكنون من الولوج إلى مرتبة المحترفين أو الأساتذة. إن الخط بالإضافة إلى كونه تمريناً روحياً، هو محاكاة للخالق، هو أيضاً علم دقيق من الأشكال الهندسية والإيقاعات. سألت عماداً كيف تمكن من شق طريقه وحيداً.
« إن أي إجابة على هذا تقودني إلى التسعينيات عندما ذهبت أول مرة إلى استانبول. كان يقال في الغالب إن القرآن نزل على النبي محمد (ص) في مكة، وتلي بأجمل ما يمكن في القاهرة وكتب بأزهى حلة في استانبول. استانبول للخطاط بمثابة مكة للمسلم. إنها قبلة الكتاب وواحد من أساطين الفن الباقية وهو حسن شلبي تلميذ لحامد الآمدي أعظم خطاطي العصور الحديثة وآخرهم من المدرسة العثمانية. عندما ذهبت إلى استانبول لم يكن خطي متطوراً كما هو الآن، أما التقنيات التي كنت أستخدمها فلم تكن تلك التي أستخدمها الآن. كنت أشك في قدراتي. ولم أكن واثقاً من الطريقة التي أحرك بها قلمي، أو حتى من أين ابدأ وأنتهي. على أي حال أريت عملي إلى الأستاذ شلبي وقال لي آنذاك، ما تفعله يأتي من اتساقه لكن على الأقل تقوم به بالطريقة الصحيحة. في الوقت ذاته التقيت نهاد جتين وهو أستاذ أيضاً عندما رأى عملي قال لي «لقد اخترت أن تتعلم بالطريقة الأصعب. أنت كعشب بري ينمو من صخرة في بيئة قاسية. نعم إنها عشبة… نعم وخضراء… لكن بالطريقة الأكثر قسوة». فعلاً فإن تشبيهه أعطاني نوعاً من الثقة بالنفس. كما وفر لي منظوراً جديداً. إن جل الخطاطين الذين يتعلمون مباشرة من الأساتذة يميلون إلى وضع عوائق أمام أنفسهم. وهم يبقون في القالب ذاته ولا ينجون منه أبداً. وإن قال أستاذهم إن حرفاً يجب أن يكون بطول كذا أو كذا ينصاعون لما يأمر به، لكن لأنني كنت في القفار فقد قلدت الجميع. وهذه هي الطريقة التي تعلمت بها، بنسخي كل نموذج. حتى أنني نسخت الخط السيئ. وهذا ما جعلني مرناً. وعندما يقوم المرء بأعمال الترميم مثلاً، عليه أن يتمكن من قراءة عمل الآخر ويعرف ما هو الخطأ وما هو الصواب فيه وأن تكتب بالروح ذاتها تماماً كما كتب هو بالروح . ويدخل المرء بعداً جديداً، حتى مع خطاط سيئ يكتشف المرء أشياء لا يعرفها أو يختبرها. إذ ليس بإمكان المرء أن يتبنى أسلوب امرئ آخر من دون أن يغير الطريقة التي يمسك بها القلم بيده. إنه شيء يشبه الخروج من مدينته والذهاب إلى مكان آخر ومن ثم العودة إلى أرضه سالماً. أستطيع أن أميز الجمال في عمل كل أستاذ في هذا المجال، لكنني في الوقت ذاته تمكنت من شق طريقي الخاص بي. عندما ذهبت إلى استانبول دخلت في مسابقة تقام مرة كل ثلاث سنوات وهي مشرعة إلى الخطاطين من جميع أنحاء العالم. أردت أن أثبت نفسي. أكملت قطعتي في يوم ونصف، وهذا لا شيء، وحصلت على واحدة من الجوائز الرئيسة. بعد ذلك، فقدت الاهتمام. لم أرجع إلى استانبول. وكأنني قلت في قرارة نفسي لم أعد أريد هذا».
لست شيئاً
هل تعتبر نفسك أستاذاً في الخط؟
«ثمة القليل من البشر من يعرفون بوجودي! لم يكن ما أصبو إليه في أن أحقق هذا. بالنسبة لي هذه سيرورة طبيعية. إنها شأن الصلاة. إنه شيء أفعله».
هل يمكن القول إنك تدافع عن فن يحتضر؟ وكيف ترى نفسك في هذا الإرث؟
«لست أرى الخط فناً يحتضر لأن الإلهام أقوى. والقرآن هو المصدر الأقوى وهو القوة التي تلهمني أو تلهم شخصاً آخر. وخاصة الآية التي يقول فيها الله تعالى «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». ونص الكتاب لن يتغير لأنه مصون. ولا يستطيع أي كان أن يغير فيه. وأنا مجرد أداة لإظهار هذه الكلمات إلى النور. إن جمال الخط هو ما مكنني من أن أرى القرآن. إنه من علمني كيف أصلي وما يقربني إلى الله. ما دام هذا كائناً فلن يكون هناك نهاية للخط. ومن جهة أخرى تتحرك الحياة على نحو سريع والناس لا يكون لديهم الصبر وهذا ما يبعدهم عن الأنواع الأخرى من الفعاليات. هناك العديد من الطرق الآن لإنتاج عمل بالنوعية ذاتها. خذ الكومبيوتر مثلاَ. الخط هو سيرورة طويلة ومعقدة لا يمكن تسيدها في وقت قصير. على المرء أن يكون لديه الأساس الصحيح، الإلهام الصحيح.
عندما تستخدم جهاز الكومبيوتر، كما أعتقد بأنك تفعل في بعض الأحيان، ألا يعتبر هذا ضد تقاليد هذا الفن؟
«أغضب من نفسي لأنني أستخدمه، لكن هذه مجرد مرحلة، استكشاف لجميع المناطق. وأنا أريد أن أعرف كل شيء وأكون في كل مكان. الكومببوتر مفيد للمسائل التقنية، المشروعات الصغيرة والرصيعات وبطاقات المعايدة أو لتقطيع وطباعة العمل الذي كنت قد قمت به مسبقاً. لا يمكن أن يكون أداتياً في خلق حالة روحية أو ذهنية. بإمكان أي شخص أن يستخدم الكومبيوتر لكن لن يكون هناك النوعية نفسها والتفاعل نفسه. الخط خو الخط، وهو مقدس بينما ربما استخدم الكومبيوتر لتصميم نموذج لحد ما أو زخرفة وغالباً ما نعيد بناء الحد ذاته مئات المرات التي أقوم بها على الكومبيوتر».
إعداد وترجمة: صخر الحاج حسين
السفير