عند تخوم ولاية الفقيه ؟
عبد الحسين شعبان
طرحت الانتخابات الايرانية ونتائجها وذيولها موضوع ولاية الفقيه مجدداً على بساط البحث. ورغم خصوصية الحدث الإيراني، لاسيما أن “الديموقراطية المقننة” كانت نتاجاً توليفياً حاول الجمع بين مرجعية ولاية الفقيه الذي بيده “القِدح المعلّى” كما يقال، وبين اجراء انتخابات لرئاسة الجمهورية. فضلاً عن ذلك فثمة مرجعيات أخرى غير منتخبة بين ولاية الفقيه ورئاسة الجمهورية، ونعني بها مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، وعلى رأس الجميع يجلس متربعاً الولي الفقيه غير المنازع. وهو اصطلاح ديني “شيعي” لكنه في المعنى السياسي أقرب الى رئيس مجلس قيادة الثورة أو الأمين العام للحزب في أوضاع الأنظمة الاستبدادية، حين تكون صلاحياته أقرب الى الصلاحيات المطلقة.
الذي جاء بولاية الفقيه في إيران الى مواقع السلطة هو ثورة العام 1979 التي قادها السيد روح الله الخميني، وكان قد نظّر لها في كتابه “الحكومة الاسلامية” منذ عقد ونصف من الزمان قبل هذا التاريخ، حين كانت المرجعية الدينية الايرانية تعقد حلفاً مع السلطات السياسية منذ العهد الصفوي أقرب الى صفقة تاريخية متبادلة، حيث يضفي الأخير على السلطات الدينية نوعاً من القدسية، مقابل أن تقوم هي بمنحه تأييداً يكاد يكون مطلقاً.
ولهذا فإن التحدي الذي ترافق مع الحدث الإيراني، حيث كان المشهد السائد يوحي بالاستقرار، هو اهتزاز صورة ولاية الفقيه، الذي أصبح محطّ جدل ونقاش بين انحيازات لمحمود أحمدي نجاد والتصدي للمحتجين، ولاسيما من جماعة حسين الموسوي وإن كان الطرفان تحت السقف الاسلامي. وهو أمر جدير بالتوقف عنده، خصوصاً أنه يكاد يكون التحدي الأكبر. فلأول مرة منذ أكثر من ثلاثة عقود تواجه ولاية الفقيه أسئلة وإن لم تكن حارقة حتى الآن، الا ان فيها الكثير من المعاني والدلالات المستقبلية.
لقد استندت فكرة ولاية الفقيه على حل ديني لحيرة بشرية بعد انقطاع الامامة الاثني عشرية بحسب الفقه الشيعي، وذلك منذ ” الغيبة الكبرى” للامام المهدي المنتظر “صاحب الزمان”. لكن هذا الحل أصبح قيداً شديداً، لاسيما بعد الدعوة للاصلاحات الدستورية واندلاع المعركة بين “المشروطة” التي تدعو لتقييد الحاكم بدستور، و”المستبدة” التي روّجت لنظرية المستبد العادل.
وقد كان كاظم الخراساني في إيران أحد أهم دعاة “المشروطة” التي انقسم علماء الشيعة حولها، بين مؤيد ومعارض، ومن أصحاب هذا الاتجاه الميرزا محمد حسين النائيني مؤلف كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملّة” الذي بدّل فكرة ولاية الفقيه الى ولاية الأمة، وهو الأمر الذي ترافق مع بعض دعوات الاصلاح الذي كان لأوروبا فيها تأثير غير قليل، خصوصاً التيار الاسلامي الاصلاحي الذي تجسد بجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي والتونسي وغيرهم.
ويمكن السؤال: هل يعني الحدث الايراني توقف الثورة عند تخوم ولاية الفقيه أم هناك رغبة في تجاوزها؟ ولكن الى أين؟ لاشك في أن هناك كوابح وعقبات أمام تحلل التيارات السياسية تحت المظلة الخمينية من ولاية الفقيه، لكن الصراع السياسي، ولاسيما بين المحافظين والمجددين أو الاصلاحيين قد ساهم في ابتعاد الاخيرين عن المظلّة الخمينية حتى دون إعلان، خصوصاً بعد انحياز الولي الفقيه الى جانب أحد طرفي الصراع.
ورغم خصوصية الحالة الايرانية، من حيث هي شكل من أشكال النظام الشمولي، ولكن بتعددية خاصة وانتخابات وتداول للسلطة ومجتمع مدني فيه حيوية أكثر من غيره من الأنظمة المشابهة، الا أن التعايش الهش والقلق بين التيارين بات وشيك الانحلال أو التمزق، الأمر الذي سيطرح إن آجلاً أو عاجلاً مسألة ولاية الفقيه على بساط البحث، ففي حين يتمسك بها المحافظون، سيسعى التيار الأصلاحي للتحلل منها تدريجاً، طالما أصبحت قيداً ثقيلاً عليه، خصوصاً انحيازاتها المسبقة لمصلحة خصومه، كما بيّنت ذلك الانتخابات الأخيرة.
لقد أخرجت هذه الانتخابات ما كان خافياً تحت عمامة الولي الفقيه، لاسيما مرجعيته ومستقبل هذه المرجعية في ظل ولاية الأمة على نفسها، فهل سيحسم الصراع بين حكم ينتمي الى الماضي (الغيبة) وبين حكم ينتمي الى الحاضر والمستقبل، وخصوصاً إرادة الناخب، التي تمنح الشرعية وليس إرادة الولي الفقيه، وهو بشر قد يخطئ وقد يصيب، وإذا ما تدخّل بالشأن العام وانحاز الى طرف على حساب آخر، يكون قد دخل لعبة السياسة، الأمر الذي قد يفقده مرجعيته وحيدته ونزاهته، حيث لم تعد هذه المرجعية مستمدة من إمام غائب أو نائبه، خصوصاً إذا كان فيها شيء من الافتئات على المجتمع وتطلعاته، فالانتخابات شأن دنيوي وبشري وليست شأناً دينياً، يخص الامام وحده بقدر علاقته بالناس ومصالحهم.
ان أهم وأكبر كوابح تطور الحالة الايرانية هو وجود مجلس صيانة الدستور وهيئة تشخيص مصلحة النظام، هذه التي يتربع فوقها الولي الفقيه، تتقدم على مصلحة الأمة، أي مصلحة مجموع الناخبين، الأمر الذي تقترب فيه فكرة الولي الفقيه من المستبد العادل، طالما كان ضمن تراتبية دينية، ولربما تفوق ذلك بكثير، خصوصاً اضفاء طابع القدسية عليه.
لم يعد الناخب الإيراني في ظل خصوصية الحالة الايرانية، ملزماً بفتوى السيد علي خامنئي “مرشد الجمهورية الاسلامية” أو غيره من المراجع الكبار، وهو أمر أفرزته الانتخابات الأخيرة، حين ادت الى الشك بصدقية مثل هذه الفتاوى وجدواها في ظل الانحيازات المسبقة، ولعل ذلك سيتم تفسيره باعتباره شكلاً من أشكال الاستبداد باسم الدين، الذي لا يمكن لإيران التخلص منه دون التحلل من استبداد ولاية الفقيه، وهو ما سيفرزه الصراع بين التيار المتشدد- الأصولي، والتيار الاصلاحي- المجدد، وإن كان جنينياً. ولعل ذلك سيحدد لا مسار التيارين حسب، بل مسار ايران كلّها لاحقاً، في القريب العاجل أو في الاستحقاق الآجل.
(كاتب عراقي)