أوباما والإقتصاد: المعركة الصامتة، المعركة الأخرى
محمد الحدّاد
سجّل الرئيس الأميركي أوباما أوّل نكسة في تطبيق برنامجه الاقتصادي وذلك باضطراره الى التراجع عن العديد من الإجراءات التي وعد بها في الحملة الانتخابية للحدّ من ظاهرة المضاربة المالية المعتمدة لدى المصارف، وهي الظاهرة التي تسببت بأزمة اقتصادية تجاوزت الولايات المتــحدة لتضر بالعالم كله. فقد أقرّ مجلس النواب قانوناً اعتبر رخواً لا يكفي لاستئصال هذه الظــــاهرة، ورأى المراقبون أن «وول ستريت» انتصرت على واشنطن وأن المال تغلب على السياسة. بل يذهب البعض إلى أنّ هذا القانون رغم ضعفه قد لا يرى النور، إذ انه سيعرض على مجلس الشيوخ في بداية السنة البرلمانية القادمة وقد لا يحصل على الأغلبية هناك.
والواقع أنه يكفي أن نحتفظ بمعلومة واحدة وردت في تقرير المدعي العام لمدينة نيويورك كي ندرك السبب في قوّة المصرفيين وضعف الساسة: لقد حصلت تســـعة مصارف أميركية على إعانة من الدولة تبلغ 125 مليار دولار باعتبارها مصارف مــهددة، لـــكن ذلك لم يمنــــعها من صرف 33 مليار دولار منحاً لكبار المسؤولين فيها والمضاربين الذين يمثلونها في البورصات.
ويذكر المختصون أن هــــــذه المــــصارف قد بادرت بإعادة مبــــالغ المساعــــدات التي حصـــلت عليها قبل الآجال كي تتحلّل من كل التزاماتها نحو السلطات الفيديرالية، وبذلك أصبحت قادرة على أن تتصرف كما يحلو لها، ولم تعد مجبرة على تنفيذ ما تعهدت به عندما قبلت المساعدات السخية جداً التي قدمت لها من المال العام.
بل يتضح أن النظام المصرفي القائم على المضاربة قد استفاد من الأزمة بالتخلص من جزء من المصارف وتوسيع دائرة الاستفادة للمصارف التي نجحت في تجاوز الأزمة، ولم يبق للسلطات العمومية إلا باب التشريع لترشيد النظام الرأسمالي، وهو باب ضيق في عصر يشهد سيطرة المبادئ الليبرالية القصوى التي تدين تدخل الدولة في السوق المالية، مع أن أصحاب هذه المبادئ لم يروا حرجاً في أن تتدخل الدولة بمئات المليارات لإنقاذ المصارف المفلسة. ومن الواضح أن المصارف لم تر الدولة في هيئة المرشد للسوق المالية أو المعبر عن الإرادة الشعبية، بل تعاملت معها وكأنها مصرف ضخم تستدين منه وتعيد الدين متى قدرت عليه ثم لا تلتزم نحوها بشيء آخر.
وفي انتظار أن نرى كيف سيكون ردّ أوباما في بداية السنة البرلمانية القادمة، فإن المؤكد أن الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة قد انهزمت سياسياً مع انتخاب أوباما لكنها حافظت على قوة خارقة في الميدان الاقتصادي.
ولن يكون سهلا على الرئيس الأميركي أن يواجهها في هذا الميدان الذي لا يبدو أنه يتقن كثيراً منعرجاته وخفاياه. هذا مع أن مصير العالم مرتبط بنتيجة هذه المعركة بالذات، فتواصل الأزمات المالية سيزيد المجتمعات ارتباكا في كل أنحاء العالم، وسيضعف الشعور بالمواطنة والإيمان بالديموقراطية، وسيمنح أصحاب رؤوس الأموال الضخمة حق التصرف المطلق بمصائر البشر.
إنّ واقع العولمة يجعل العالم كله مرتبطاً بنتائج هذه المعركة، لكنّ الجزء الأكبر في هذا العالم لا يستطيع أن يؤثر بشيء في وقائعها، فهي معركة تدور في بورصة نيويورك ولندن وليس في مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة. وهنا تحديداً يبرز جانب الاختلال في العلاقات الدولة، وفي وضع المواطنة. فجزء من البشرية محروم من حق الممارسة السياسية، والجزء الآخر يتمتع بهذا الحقّ لكنّ مصيره لا يحدده الساسة بل المضاربون ولا يقرّر في البرلمانات بل في البورصات. كيف ستحتفظ الديموقراطية ببريقها وجاذبيتها إذا استمرت الحال هذه بل زادت تفاقماً؟
الحياة