وليد جنبلاط: هل أن تكرار الخطأ فضيلة؟
فواز طرابلسي
على عكس ما يتبادر إلى ذهن الكثيرين، لم يكن ما أعلنه وليد جنبلاط من مراجعات ومواقف في لقاء فندق البوريفاج بمثابة انقلاب، بل هو إعلان عن فشل انقلاب.
بُعيد اغتيال الرئيس الحريري، تربّع وليد جنبلاط على رأس تحالف 14 آذار الذي سوّلت له نفسه الافتراض أنه يختزل الشعب اللبناني برمته في «انتفاضة الاستقلال» العوراء. وساد الظن في أوساط ذاك التحالف أن مجرد الظن بدور سوري في اغتيال الرئيس الحريري يكفي للإدانة ولإطاحة النظام السوري برمته، في إطار الهجمة الأميركية على المنطقة مطلعها احتلال العراق. محلياً، تصوّر جنبلاط أن الحد الأدنى في الرد على جريمة اغتيال الرئيس الحريري هو الإطاحة بالرئيس إميل لحود. والتصوّر هنا كان الإتيان برئيس للجمهورية مطواع وبسعد الحريري رئيساً للوزراء فيصير سيد المختارة، السياسي المخضرم «النيافة الرمادية» الممسكة بمقاليد الأمور في حكم البلد.
أخطأ وليد جنبلاط أيما خطأ في قراءته للوضع العربي والدولي. وقد كان قوامها فكرة الفسطاطين اللذين لا بد لأحدهما أن ينتصر والآخر أن يبلى بشر هزيمة. لم يقدّر مبلغ تعقيد رقصة التانغو السورية ـ الأميركية، ولا وعى جدية البراغماتية الإيرانية، ولا توقع المصالحة السورية السعودية، ولا بالتأكيد مبلغ الورطة الأميركية في العراق وقرب الانهيار العسكري في أفغانستان، وأخيراً وليس آخراً أثر تلك الانتكاسات والأزمة المالية على سياسات إدارة باراك أوباما.
بهذا المعنى، حاول وليد جنبلاط، في ظروف لبنانية وعربية وإقليمية ودولية شديدة الاختلاف، ما حاوله كمال جنبلاط خلال عامي 1975 ـ 76. لم يخرج كمال جنبلاط عن طائفته عندما قرّر ربطها بقوى متعددة الانتماءات الطائفية والمذهبية، وبجماهير تعرّف نفسها بانتماءاتها المهنية والطبقية والوطنية، وترهص بالحاجة إلى التغيير الديموقراطي العلماني وتدافع بالسلاح عن حق المقاومة الفلسطينية في العمل من الأراضي اللبنانية. كما كان كمال جنبلاط شديد الوعي لكون «انقلابه» الذي توسّل فيه السلاح الفلسطيني أداة ضغط من أجل التغيير، إنما هو مغامرة. لكنه اعتبرها «مغامرة تستحق العناء» لأنها وسيلته الوحيدة لتجاوز الموقع الأقلي لطائفته، والسماح لزعيمها، الكفوء والكاريزمي، بأن يتجاوز الحدود التي يفرضها عليه وزن الطائفة العددي في تراتب مناصب الحكم الطوائفية والمذهبية. وجدير بالتذكير أن كمال جنبلاط قبل تبنيه البرنامج المرحلي للإصلاح الديموقراطي، بدأ بالمطالبة بإلغاء المذهبية السياسية لا الطائفية السياسية، بما يسمح لأرثوذكسي بأن يترشح لرئاسة الجمهورية، وللشيعي أو الدرزي لرئاسة الحكومة.
وللذين لا يرون إلا وجهاً واحداً من مواجهات 1975 ـ 76 هو تصدي الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية لمخطط إسرائيلي ـ أميركي لتصفية هذه الأخيرة على الأرض اللبنانية، لا بد من تذكيرهم بأن كمال جنبلاط وياسر عرفات، راهَنا في تلك المواجهة، باسم استقلالية القرارين الوطنيين الفلسطيني واللبناني، على الحلف الساداتي ـ السعودي الذي كان يغذ السير نحو اتفاقية كامب ديفيد. ولم يقع في حساب هذا أو ذاك إمكان التفاهم الأميركي ـ السوري إلا بعد مجيء دين براون في ربيع 1976 وإبلاغه جنبلاط ذلك بالكلام الصريح. وفي قمتي الرياض والقاهرة، جرت تغطية الضوء الأخضر الأميركي للدخول العسكري السوري إلى لبنان، بتعميد القوات السورية «قوات ردع عربية». وفي المصالحة التي تمت بين الرئيسين السادات والأسد، أخذ أنور السادات حرية التصرّف في الحل المنفرد مع إسرائيل وترك للأسد حرية التصرّف في لبنان. غامر وليد مثلما غامر أبوه. لكنه لم يفلت من تكرار الخطأ إياه: الخطأ في تقدير العلاقات السورية ـ الأميركية.
من هنا، فإن إعادة تموضع وليد جنبلاط هي إعلان عن بدء مرحلة الانكماش لدوره ولتمدّد دور طائفته. يضيء ذلك تحجّجه بأن «للجبل الدرزي خصوصية معينة». وتكمن تلك الخصوصية في أن «الجبل الدرزي» واقع، مثل زعيمه، بين «حانا» الأكثرية المسيحية شمالاً و«مانا» التمدّد الديموغرافي والعقاري الشيعي جنوباً.
هل يلجأ وليد جنبلاط إلى دمشق مجدداً كي تؤمّن له موقعاً لا يقزّمه إلى مجرد مرتبة الطائفة الخامسة وسط هذا التطاحن على السلطة وتوازنات القوى بين الطوائف الرئيسية الثلاث؟ هل يشكّل «الانقلاب» على الانقلاب ضمانة كي يلعب وليد جنبلاط دور بيضة قبّان بين التحالفين المتزعزعين أصلاً بعد أن اختلط شعبان برمضان في الأكثرية والأقلية النيابيتين؟
في انتظار أن تجيب التطورات اللاحقة عن مثل هذه الأسئلة، ليس وليد جنبلاط وحده مَن حاول انقلاباً وفشل. حاوله ائتلاف 8 آذار في 7 أيار 2008، مستفيداً من محاولة جنبلاط الأخيرة لاستدراج تدخل خارجي ضد «حزب الله». نجح «الانقلاب» في اختراق المعارضة للجهاز التنفيذي بواسطة الثلث المعطل، لكنه فشل استراتيجياً إذ نُظر إليه من منظار مشروع الجنرال عون في التعويض عن تنازله عن الترشح لرئاسة الجمهورية بالانتصار في الانتخابات النيابية فيأتي إلى المنصب ذاته محمولاً على الاستفتاء الشعبي، رئيساً مسيحياً قوياً. لم يتطابق حساب حقل الجنرال مع حساب بيدر الانتخابات النيابية. فها هو إعلان الانكماش يتبدّى في المطالبة بحصة في الحكومة على أساس نسبة الأصوات المسيحية التي نالها في الانتخابات الأخيرة.
لكن الجنرال تخلّى باكراً عن الرطانة العلمانية وأخذ يغطي عند جمهوره المسيحي «سموات» الانفتاح السوري بـ «قبوات» الدعوات التهجيرية ضد الفلسطينيين، باسم رفض التوطين. أما رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، فلا يزال يستخدم شيفرات إيديولوجية قد لا تحتاج إلى كبير جهد أو تبصّر لفك رموزها. فإشهار العروبة وفلسطين مقدمة للعودة إلى مصطلحات الحركة الوطنية البالية عن «الانعزالية» وشن الهجوم على مسيحيي 14 آذار ومن خلالهم على المسيحيين بعامة. وقد صدر عنه تصريح سابق بهذا المعنى. المشكلة هنا أن النائب وليد جنبلاط لم يلاحظ أن العروبة عروبات، وأن ثمة على الأقل عروبة «سعودية عربية» نفطية، ضاربة أطنابها في أوساط مسيحيي 14 آذار، ساهم هو في تنميتها، وتضم مسيحيين ومسلمين، واسمها الحركي «العروبة الحضارية»! أما تذكّر العمال والفلاحين ورفض الخصخصة فليسا بالأمر الجديد. أشهر جنبلاط سيف «الاشتراكية» مراراً عندما كانت الحاجة تدعو لأخذ مسافة ما من الرئيس رفيق الحريري، وهو يشهره الآن للإعلان عن أخذ مسافة من وريثه.
قد يقول قائل: هذا جزاء مَن يرهن نفسه للقوى الخارجية، أو يراهن عليها، والأفدح مَن يخطئ في تقدير خططها والسياسات.
لكن أين الجزاء؟
أما الحديث عن إحياء اليسار وتجديده، فحديث خرافة، يا أم عمرو! يحتاج إلى مدخل آخر غير الندم الجنبلاطي. يكفي لرفض الدخول إليه من هذا المدخل سماع وليد جنبلاط، رجل الأعمال وسليل إحدى أقدم أسر لبنان الإقطاعية، يهاجم «الإقطاع والرأسمالية»، والأمير طلال أرسلان يعلن كفره بالنظام الطائفي ذاته وبـ «الإقطاع السياسي والمالي».
لا حياء في النظام الطوائفي ولا محاسبة. وفي زمن يسود فيه مثل هذا التخليط، ويصير فيه تكرار الخطأ فضيلة، وتعبيراً عن حكمة الزعيم، الذي لا يعطي سرّه لأحد، يجب التذكير بالحكمة القائلة «كما أنتم يولّى عليكم».
السفير