إيديولوجيات السوريين وصعود الجيوسياسي
ياسين الحاج صالح
تتفاوت حساسية إيديولوجيات السوريين حيال الشاغل الجيوسياسي الذي صعد في سنوات ما بعد 11 أيلول، وبالخصوص بعد احتلال العراق، ولا يبدو مقدما على خمود وشيك. الإيديولوجية التي تكاد تكون جيوسياسية فحسب هي القومية العربية. بحكم نشأتها وتطلعاتها هي منشغلة دوما بالعلاقات الإقليمية والدولية. الولايات المتحدة وإسرائيل، أوربا وروسيا، تركيا وإيران، الدول العربية المقربة من هذا المحور الدولي أو ذاك، حاضرة دوما وبكثافة في تفكير القوميين العرب. على كل حال القومي جيوسياسي في كل مكان وبالتعريف. هذا ينطبق كذلك على القومي الكردي والقومي السوري أيضا. ومن المتوقع أن تضمر الشواغل الاجتماعية والسياسية الداخلية عند القوميين الخلص أو تلحق بانشغالهم الجيوسياسي.
بالمقابل تظهر كل من الإسلامية والشيوعية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية انشغالا أقل بالجيوسياسي. الإسلامية، وهي نزعة قومية دينية في الواقع، تفكر بالجيوسياسي بلغة الثقافة والدين لا بلغة المصالح والمحاور وموازين القوى، بلغة الأمة الإسلامية لا بلغة الدول والكتل السياسية. يكاد الجيوسياسي يرتد عندها إلى الجيوثقافي. وحيال بنى سياسية عالمية متمحورة حول الدولة، تتراوح مواقف الإسلاميين بين الصدور عن تصور مثالي تخلص له منظمة “القاعدة” وما قاربها، وبين تصور براغماتي أكثر تنبها لوقائع الدولة يمارسه “الإخوان المسلمون”، لكن ليس له ملامح واضحة.
وكانت الشيوعية التاريخية متنبهة جيدا للجيوسياسي، وذلك بسبب بنيتها كحركة عالمية ونظريتها عن الامبريالية وذاكرتها الموروثة من زمن الحرب الباردة وصراعاتها واستقطاباتها. وبعد انتهاء الحرب الباردة بهزيمة المعسكر الشيوعي يظهر الشيوعيون الخلص في سورية قربا من القوميين العرب، يفوق ما أبداه أسلافهم في مرحلة ما بين 1945 و1990.
الديمقراطية في الأصل فكرة منشغلة ببناء الدولة والحياة السياسية حول مبدأ السيادة الشعبية وتوسيع وظائف الدولة الاجتماعية، فلا يقع الشاغل الجيوسياسي ضمن نطاق اهتماماتها. لكن صعود الجيوسياسي سيدفع إلى الصدارة الإيديولوجيات الأكثر استعدادا بحكم تكوينها “الفطري” لاستيعابه، القومية بخاصة. أما قضية الديمقراطية فستتراجع كما يظهر من تطورات ما بعد احتلال العراق في المشرق العربي.
الإيديولوجية التي يقع الجيوسياسي على النقطة العمياء في عينها في سورية والبلاد العربية هي الليبرالية. إن انشغالها بالفرد وانحيازها لاقتصاد السوق وانجذابها الثقافي للغرب في زمن متسم بصعود الجيوسياسي والقومي، وبأولوية الدولة، يخفض من مرتبتها، إن لم يطعن في وطنيتها.
العلمانية كذلك تفتقر إلى حاسة جيوسياسية. إنها مشدودة الانتباه إلى دور الدين في الحياة العامة، لا تكاد ترى غيره. على أن تأثير صعود الجيوسياسي متناقض عليها. فمن جهة يتراجع حضورها مثل غيرها بسبب صعود القومي والدولة. لكن من جهة ثانية، ألا يقترن صعود القومي والدولة بإضعاف الديني، وتاليا بتقدم العلمنة، وإن ليس بالضرورة العلمانية؟ سندقق في ذلك أدناه.
على أنه يتعين التمييز بين الإيديولوجية والسياسة في جميع الحالات. فالعامل الجيوسياسي يقع خارج النواة الدلالية الأساسية لكل الإيديولوجيات المذكورة، عدا القومية. لكن الإسلامية والشيوعية، وبدرجة أقل الديمقراطية، طورت اهتماما جيوسياسيا، من مدخل السياسة والتاريخ. إن التمييز بين دار الإسلام والسلام ودار الكفر والحرب، أو نظرية الفطساطين لأسامة بن لادن، هي وليدة السياسة والتاريخ. وبقدر ما إن الإسلام ولد في السياسة، ومن تجربته المكونة تطبع بالسياسة والصراع السياسي، فإن الجيوسياسي ليس بعيدا عن “طبعه” أو استعداده، وإن لم يكن من مقتضيات الإيمان الإسلامي. بيد أن المذهب الجيوسياسي الإسلامي غير صالح لصوغ سياسات مثمرة في عالم اليوم. إنه، وبقدر ما يكون مخلصا لنفسه، ينساق نحو الإرهاب. ولا يستطيع تجنب الإرهاب دون تعديل جذري في نظرته إلى العالم.
والشيوعية في الأصل مذهب اجتماعي عابر للأمم، وانشغالها التحليلي والأخلاقي منجذب إلى الطبقات لا إلى الأمم والدول، لكن السياسة الشيوعية كما مورست بعد الثورة البلشفية في روسيا طورت حاسة جيوسياسة قوية لأنها تشكلت في معسكر ذات يوم، وانساقت إلى التمييز بين معسكر الاشتراكية، أو دولتها الوحيدة لبعض الوقت، وبين المعسكر الرأسمالي، وربما انضافت إلى اللوحة الدولة المستعمَرة أو الدول المتحررة حديثا، التي أفسح لتطورها مجال خاص لبعض الوقت في نظرية المادية التاريخية: التطور اللارأسمالي.
وعلى السياسة الديمقراطية أن تستوعب على مستوى التحليل وعلى مستوى العمل تغيرات الجيوسياسي كي تتمكن من الرد عليها. هل تستطيع فعل ذلك دون التفريط بانشغالها بتأميم الدولة وضبط سلطاتها؟ هذا ما على الديمقراطيين أن يجدوا حلولا مبتكرة له.
هل ينطبق ذلك على الليبرالية أيضا؟ هل عليها التسلح وإعلان النفير العام بدورها؟ قطعا لا. لكنها مدعوة إلى إدراك أن صعود الجيوسياسي يخفض من رتبتها ويقلص القاعدة الاجتماعية والمعنوية لدعاويها. لذلك لا تستطيع سياسة ليبرالية ذكية أن تهمل هذا العامل. والسؤال المهم ، بل المصيري، في السياق الثقافي العربي والسياق الجيوسياسي الراهن هو: هل يمكن تصور ليبرالية عربية ناقدة للغرب ومعارضة له سياسيا وجيوسياسيا؟ وهل هناك فرصة للبرلة ثقافية وقانونية واجتماعية واقتصادية بينما يصعد الشاغل الجيوسياسي بفعل السياسات الأميركية، القومية والامبريالية؟
كذلك ليس في وسع سياسة علمانية ناجعة الغفلة عن العامل الجيوسياسي، على المستوى التحليلي على الأقل. فالقومي يمتزج لدينا، في موجة صعوده الراهنة على الأقل، بالديني، وهذا خلاف ما يتوقع من ارتباطه بقوة الدولة وضعف الدين. وهذا أمر لا يستطيع العلمانيون تجاهله إن شاؤوا أن يكون عملهم مثمرا، وأن تتجاوز الفكرة العلمانية كونها ميثاق توحيد عصبة ضيقة تستغني بتماسكها الذاتي عن الطموح إلى الهيمنة الوطنية. القومي لدينا اليوم ضد العلمنة والعلمانية معا، وضد الغرب كذلك، الغرب الثقافي كما الغرب السياسي.
فإذا قسمنا الإيديولوجيات الست المذكورة إلى إيديولوجيات هوية، هي القومية والإسلامية، وإيديولوجيات عمل هي الشيوعية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية، بدا واضحا أن إيديولوجيات الهوية أشد انشغالا بالجيوسياسي من إيديولوجيات العمل. ولعل الطائفية، وهي إيديولوجية هوية أيضا، شريكة في الانشغال بالعامل نفسه، على الأقل لأن الطوائف عنصر في مركب إقليمي ودولي، تتوزع ضمنه الدول الخارجية إلى حلفاء للطوائف أو أعداء.
بيد أن انشغال إيديولوجيات الهوية بالجيوسياسي انشغال “هووي” أو هوياتي هو ذاته، أعني أنه موجه نحو تدعيم سياسات الهوية وثقافتها وسيكولوجيتها، مزيج من الخوف من الغريب والتخوين والاستبداد، والنزعة المحلية الضيقة. “الممانعة”، باختصار.
بالمقابل، إما أن تفسح إيديولوجيات العمل نصيبا للجيوسياسي في اهتمامها، فتخسر شيئا من شخصيتها و”أصالتها”، أو أن تتجاهله فيتراجع تأثيرها. هذه هي المعضلة التي يواجهها الناشطون العامون في “الشرق الأوسط” العربي. هنا حيث الجيوسياسي كناية عن السيطرة الغربية، التي تثير في مجتمعات المنطقة وثقافتها ارتكاسات قومية ودينية سلبية حيال الحضارة الحديثة، وليس فقط حيال السيطرة الأميركية.
أين المخرج؟ من يستطيع تقديم الجواب النظري والعملي على هذا السؤال هو من ستدين له الهيمنة في بلداننا. وينبسط له المستقبل.