صفحات العالم

استقلال افتراضي لكردستان العراق … والمأزق يتفاقم

حازم الأمين
من نتائج الاحتقان الكردي – العربي الراهن في العراق (وكامران قرة داغي محق في عدم اعتباره احتقاناً قومياً) ان يبلغ الضيق بعدد من المثقفين العراقيين، الذين لطالما دعموا القضية الكردية، الى حد يعلنون فيه عدم ممانعتهم انفصال كردستان أو استقلالها نهائياً. لكن عدم الممانعة هذه سلبية هذه المرة، وناجمة عن مرارات الاحتقان، وهي وإن كانت نسبية ومحدودة، لكنها بدأت تسلك طريقاً الى قناعة عدد من العراقيين من غير الأكراد. قد تكون منعدمة في الوسط السني العراقي، لكن مقاومتها في الوسط الشيعي أقل، لسببين، الأول هو ان قوى شيعية هي في واجهة المفاوضة بين الحكومة العراقية وحكومة إقليم كردستان، وهي بالتالي من يُعايش المصاعب الناجمة عن الخلافات الكبيرة بين الطرفين. أما السبب الثاني فهو ان ثمة تفاوتاً يجب الاعتراف به بين عراق الشيعة وعراق السنة في بلاد الرافدين، فهذان العراقان يتغذيان من مصادر ثقافية وتاريخية مشتركة أحياناً ومتفاوتة ومتباينة أحياناً أخرى، إذ قد تعني وحدة العراق لكلا رافدَي الهوية أمراً مختلفاً وقابلاً للمساومة أو غير قابل لها.
ليس هذا بيت القصيد هنا على كل حال، وهو نقاش قد يكون مؤجلاً، إنما بيت القصيد في الوقت الراهن يتمثل في كيفية استقبال الأكراد تسرب هذه القناعة، وإن على نحو طفيف، الى بعض الوعي العربي؟ مع التشديد على أن هذا المقدار الطفيف من القناعة غير ناجم عن اعتراف إيجابي بضرورة قيام دولة كردية، إنما عن قناعة مريرة بـ «صعوبة التعايش مع سوبرفيدرالية أمنية واقتصادية».
الجواب ليس بديهياً! اذ ان البديهي في هذه الحال ان يحتفل الأكراد بنجاحهم في دفع عرب الى هذه القناعة، لكنهم، على ما يبدو، حذرون حيالها، وراغبون في تأجيلها، إذ لا يبدو أن العرب، في العراق تحديداً عقبة أمام الاستقلال الكردي، أو هم ليسوا عقبته الرئيسية على الأقل، فالمارد التركي المجاور هو العقبة الفعلية، وبعده تأتي التساؤلات عن مواقف كل من إيران وسورية، وربما جاءت العقبة العراقية ثالثة أو رابعة في المراتب.
يدرك الأكراد هذه الحقائق، ويدركون أيضاً الثمرات الإيجابية لاندراجهم في الوطنية العراقية، وهي لا تقتصر على حمايتهم من جيران لطالما كانوا ثقيلي الوطأة وعديمي الحساسية حيال الحقوق الإنسانية والثقافية للأكراد، إنما تمتد أيضاً لتشمل المكاسب الاقتصادية لعيشهم في بلد نفطي، إضافة الى قدرتهم على فرض الشروط الأمنية والعسكرية التي تضمن استمرار فيدراليتهم في ظل مخاوفهم المشروعة من استيقاظ نزعات استئصالية لطالما حفل بها الوعي القومي العربي في العراق وغيره من مجتمعات المنطقة.
فالاستقلال الافتراضي الكردي سيملي من دون شك مفاوضة عراقية عربية مختلفة في الملفات العالقة. من الصعب في حينها أن يتنازل العراق عن كركوك، وفي احسن الأحوال سيكون للمدينة وضعها الخاص، ما يعني ان الدولة الكردية ستكتفي بكميات النفط المنتجة من حقلي طاوكي وطقطق، أي مئة ألف برميل يومياً، وهو ما يمثل نسبة 5 في المئة من الإنتاج العراقي، في حين تبلغ حصة كردستان اليوم من هذا الإنتاج نحو 17 في المئة.
كذلك سيملي الاستقلال الكردي الافتراضي تصلباً عراقياً في الملفات الخلافية الأخرى، إذ سيكون المفاوض العربي مدفوعاً بضغوط التشكيك والاتهام بتخليه عن أجزاء من بلده، ما يدفعه الى نفي ذلك عبر تشدد في «الحقوق العراقية». لن تتمكن البيشمركة من البقاء في أحياء الموصل الكردية طبعاً. المفاوضات ستكون حول الأقضية الكردية في المحافظة، مثل سنجار وبعشيقة وقرقوش، وليس على دور البيشمركة في المدينة. الأمر نفسه بالنسبة الى محافظة ديالا، وصولاً الى تساؤل حول مصير مجموعات كردية في بغداد وغيرها من محافظات الشمال.
لا يبدو ان الأكراد جاهزون لهذا الاستقلال الافتراضي، في حين هم يعيشون اليوم كمجموعة قوية بين ضعفاء، وما حققوه حتى اليوم يبدو مضيئاً في تاريخهم الحافل بالاضطهاد وسرقة الحقوق من قبل الدول العاتية التي عاشوا فيها. فهم اليوم في دولة ليست أقوى منهم، وهم شركاء فعليون في ثروتها وفي خياراتها، ومصلحتهم الفعلية تكمن في حماية التجربة ودفعها الى التوازن والتماسك.
لا شك في أن انعداماً متبادلاً للثقة تشهده العلاقات العربية – الكردية في العراق اليوم، وهو بلغ مستويات فاقت بمخاطرها المخاطر الأمنية الأخرى. زيارة المالكي الأخيرة الى كردستان لم تحدث خرقاً على ما يبدو، إذ إنه محاصر من جهة بتهمة التهاون بالسيادة، ومن جهة أخرى بجشع الدولة المركزية.
عندما يقول الأكراد في العراق ان لا طموحات استقلالية لديهم، لا يقولون ذلك رغبة في طمأنة العراقيين العرب، إنما في طمأنة جيران آخرين، ولا يقولونه أيضاً على سبيل ادعائهم تقديم تضحية قومية في سبيل وحدة العراق، إنما لمصلحة في اندراجهم في عراق فيدرالي ديموقراطي. لهذه الحقائق أثمان يجب ان تُدفع، تماماً مثلما في ذمة العرب أثمان يجب ان تدفع للأكراد… وبدأت فعلاً تُدفع.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى