متى سترفع القبعات لأردوغان وتقرع له الأجراس؟
هوشنك أوسي *
الأوطان بشعوبها، والشعوب بثقافاتها، والثقافة بتنوعها وغناها وثرائها. زمن الحديث عن الثقافات الخالصة، النقية، الخالية من إسهامات وبصمات الآخر، والحديث عن الشعوب السيدة، الرئيسة، والشعوب المرؤوسة، صار من مخلفات الماضي العفن، الذي أكل الدهر عليه وشرب. وتالياً، فكلام محنط من طينة؛ «تركي واحد يساوي العالم»، «سعيدٌ جداً من يقول: أنني تركي»…الخ، ينظر العصر إليه الآن، بعين الازدراء والتأفف، وإلى الذين لا زالوا يرددونه، بعين السأم والشفقة، لكونهم غدوا مومياءات تعيش في الماضي.
خمس وثمانون سنة، والأتراك يرددون: «تركيا للأتراك. تركيا، شعبٌ واحد، لغةٌ واحدة…». وخمس وثمانون سنة، وهذه المقولات، التي لا تعكس الحقيقة التاريخية، القومية والإثنية والثقافية المتنوِعة لتركيا، كلفت هذا البلد حروباً ودماء غزيرة. لكن، قوة السلاح، وثقافة الإنكار والامحاء والصهر والتذويب القومي، لا تحصن الأوطان، ولا تنصع شعوب متمدِنة. وكذا كان حال تركيا، منذ أن طوت صفحة دولة الخلافة، ودخلت العهد الجمهوري، سنة 1923، وإذا هي ساحة للانتفاضات والثورات الكردية على سياسات القمع والصهر، وللانقلابات العسكرية على دعاة التغيير والديموقراطية. وبعد خمس وعشرين سنة من الكفاح المسلح الكردي في تركيا، بقيادة حزب العمال الكردستاني، وبعد الكثير من مبادرات حسن النية، أبداها الكردستاني، دون أن تكترث بها الحكومات التركية المتعاقبة منذ 15/8/1984، حتى قبل أيام، إلى أن جاء رئيس الوزراء التركي، وزعيم حزب العدالة والتنمية، رجب طيب أردوغان، ليفجِر قنبلته السياسية في البرلمان التركي، في اجتماع الكتلة النيابية لحزبه يوم 10/8/2009. هذه القنبلة، التي كان تأثيرها السياسي والإعلامي والثقافي والنفسي، أكبر من زلزال بقوة 10 درجات على مقياس رختر، لا زالت هزاته الارتدادية، الشغل الشاغل للرأي العام التركي، ومحط بحث وتحليل ودراسة وتعليق وردود أفعال سياسية وثقافية في قنوات التلفزة التركية، ومادة دسمة لكتاب الأعمدة في الصحافة التركية. ليس آخرها، إصدار 162 مثقفاً وأكاديمياً وصحافياً تركياً بياناً، يعلنون فيه مساندتهم لمشروع أردوغان لحل القضية الكردية.
وأخيراً فعلها أردوغان، وألقى خطاباً بالغ العمق والحساسية والجرأة والتأثير، في بلدٍ اعتاد على سماع الكلام والخطابات الخشبية، القومجية نفسها، لخمسة وثمانين سنة. ألقى أردوغان خطابه، مثيراً المشاعر والأحاسيس، لدرجة، أن أعين الكثير من النواب، اغرورقت بالدمع، على رأسهم نائبه بلند أرينج. في إلى جانب مساعي حكومته لحل القضية الكردية، وتكليفها وزير الداخلية بشير آتالالي ليكون المنسق المباشر للملف، أتى خطاب أردوغان، ليكون خضة قوية تفتح أعين الرأي العام التركي، على ما كان ممنوعاً ومحظوراً.
هكذا تكلم أردوغان: «أياً تكن الأكلاف والأثمان، فلن نحيد عن طريق حل القضية الكردية. لو منذ ثلاثين سنة، تم حل هذه القضية، ولم تتضخم لهذا الحد، ماذا كان حال تركيا الآن؟. لو أن تركيا، أرجأت مكافحتها للعصابات، (قاصداً أرغاناكون)، وحالت دون ارتكاب جرائم الاغتيال التي قيدت ضد فاعل مجهول، ماذا كان حال تركيا الآن؟. ينبغي على الجميع طرح هذه الأسئلة على أنفسهم، وإيجاد إجابات لها. محالٌ أن يستطيع أحد قطع روح الأخوة بين الأكراد والأتراك. لا فرق لدينا بين آلام وأحزان أمٍ في هكاري وأمٍ في يوزغات (قاصداً أمهات المقاتلين الكرد والجنود الأتراك). بغية إيجاد الحل، سنتحاور مع القوى الشرعية القانونية (قاصداً حزب المجتمع الديموقراطي DTP الذي له في البرلمان 21 نائباً). نيتنا للحل صميمية، إذ لم نعد نحتمل موت شبابنا، ولم نعد نحتمل آلام قلوب الأمهات. آلام الأمهات لا تعترف بالسياسة والأيديولوجيات.. أياً كان الثمن، ومع الموجودين هنا، وغير الموجودين، سننتصر. ألم نخض معاً حرب التحرير، وبنينا الجمهورية سوياً، وحافظنا على القيم المشتركة. أياً كانت تعقيدات ومحاذير هذه المشكلة، نحن نود حلها. أنه مشروع «نهضة تركيا»، مشيداً بملحمة «مم وزين» للشاعر الكردي المتصوف أحمد خاني، ومادحاً أغنية «حلبجه» للفنان الكردي المعروف شيفان باوار، ومنوِهاً بدور القائد الإسلامي، الكردي الأصل، صلاح الدين الأيوبي في مقارعة الصليبيين، وتحريره للقدس، ومشيراً إلى تحالف الأكراد والأتراك في معركة تشالدران ضد الصفويين سنة 1514 م. وعليه، ذكر أردوغان بالشراكة الكردية – التركية في صناعة تاريخ وحاضر تركيا.
تلك الحقائق التي أتى أردوغان على ذكرها، في خطابه السالف، لم يستيقظ صباح يومها واكتشفها فجأةً!. كل التيارات السياسية والثقافية في تركيا، بما فيها أحزاب المعارضة، المناوئة لأردوغان ومساعيه لحل القضية الكردية، على عِلم ودراية شاملة وعميقة بها. الكل يعلم، أن الأتراك أقوياء بالأكراد، وأن الأتراك لم ينجحوا في بناء أمجادهم، لولا وقوف الأكراد إلى جانبهم. لكن، لا أحد يجرؤ على القول: «كفى لمنطق الحرب والإقصاء والإنكار. تركيا لكلِ شعوبها».
تلك الحقائق التي ذكرها أردوغان، منذ عشرة أعوام، والزعيم الكردي عبدالله أوجلان يكررها، قياماً وقعوداً، في رسائله التي يمررها عبر محاميه، ولم يكن يجد أذناً تركية صاغية. أوجلان الذي تعرض من قِبل بعض أكراده القومجيين، للتقريع والتشنيع والسخرية، وحتى للتخوين، لإصراره على القيم الوطنية، ونبذه للانزلاقات القومية، ونقده لذاته ولحركته بشجاعة القادة، ولم يتزحزح عن أفكاره وقناعاته، ينبغي على أردوغان أيضاً، أن يقرن أقواله بالأفعال، وأن يصمد في وجهة حملة التخوين التي تشنها عليه أحزاب المعارضة، وبخاصة حزب الحركة القومية MHP، وزعيمه دولت باختشلي، تماماً، كما صمد أوجلان. فأن تقول الحقيقة متأخِراً، أفضل من أن تبقى ساكتاً عنها أبداً.
وبما أن أردوغان نفسه، يعترف بالخطأ الجسيم الناجم عن تأخير حل القضية الكردية في تركيا، ويشير إلى فداحة كلفة ذلك التأخير على تركيا، فعليه أن يتحلى بالمزيد من الجسارة، ويمضي لحل عادل وشامل، وغير منقوص أو ملتبس، يضمن الحقوق القومية والوطنية لأكراد تركيا في الدستور التركي. حينئذ، لن يكون كلامه سحابة صيف عابرة، أنتجتها الضغوط الأميركية والأوروبية. ولن يقول أحد أيضاً: أن كلام أردوغان، كان نتيجة عجز أمام المقاومة الكردية المستمرة لربع قرن.
لا شك في أن إخماد نار حرب دامت ربع قرن، أصعب بكثير من المضي في خوضها لربع قرن آخر. تماماً، كما وصفه أردوغان؛ «إنه مشروع نهضة تركيا». ولن يقوم لهذا المشروع قائمة، إذا لم تقم تركيا بمراجعة نقدية شاملة وصريحة وشفافة وجريئة وجادة، ليس في الملف الكردي فحسب، بل في الملفين الأرمني والقبرصي أيضاً. آن لتركيا أن تضمِد جراحها، وتنفتح على ماضيها الحضاري الموزاييكي الثري، كي تكون قادرة على الانفتاح على المستقبل اللائق بها. وإذا نجح أردوغان في هذه المهمة التاريخية، بالأفعال لا الأقوال، حينئذ، ليس الأكراد وحدهم، بل العرب والفرس والترك والأرمن، وكل العالم، سيرفع له القبعات، حانياً له القامات.
* كاتب كردي سوري