هل يكون الأكراد عنوان المرحلة المقبلة؟
نهلة الشهال
قد يكون أكراد العراق الجهة التي ستدفع أكبر ثمن للمتغيرات الدولية من ناحية، وللاتجاهات التي يسير نحوها الوضع الداخلي للعراق من جهة ثانية. والسبب أن حجم ما شُجعوا عليه من طموحات في فترة السنوات الست الماضية، منذ الاحتلال الأميركي للعراق، يفوق قدرة – ورغبة – أي جهة على تحقيقه بل على احتوائه. وفي ذلك مأساة بحد ذاتها.
فما بُني على الأرض من مؤسسات متنوعة، سياسية واقتصادية ومدنية، وعلاقات، يمثل نواة دولة فعلية تمتلك تصورها المتكامل عن نفسها، وتسعى إلى تنفيذه وتجسيده في دور حمل الكثيرين على مقارنة المشروع بإسرائيل. ولب المقارنة ليس حداثة تلك المؤسسات، بل غربتها عن المحيط وعداءها معه، بحيث لا تتماسك إلا في سياق الاصطدام به. أما بخصوص الحداثة المزعومة، فهي باتت تعرّف ويستدل عليها من خلال الأبنية اللماعة والشديدة التكييف، ومكاتب تمثيل الشركات الكبرى المعولمة، والكثير من المال المتوافر لمشاريع شتى، عمرانية وتجارية، وبعض الديكور المتمثل بفروع جامعات أميركية مشهورة، ونساء سافرات و «مودرن». وقد بات المفهوم يحتاج إلى تعريف ملح، إذ تبدو الحداثة مستعدة، وبقوة، للتأقلم مع علاقات اجتماعية وسياسية إقطاعية وعشائرية (وهما ليسا شيئاً واحداً)، كما تبدو متأقلمة وبالمقدار نفسه من القوة مع درجـة غير مسبوقة من الفساد، وأخرى لا تقل عنها من التسلط…
وبالعـــودة إلى الوضع المباشر، كرر المسؤولون الأميركيون في الأيـــام الماضية «قلقهم» مما يسمونه «التوتر العرقي بين العرب والأكراد»، وخشيتهم من أن يصبح منبعاً للعنف. ورغــم طغيـــان عناوين أخرى عليهما، فقد احتلت هذه المسألة مكانة مهمة في زيارة وزير الخارجية التركي أحمد أوغلو إلى بغداد، كمـــا في الزيارة الثانية للوفد العسكري الأميركي إلى دمشق. وقبـــل ذلك، كررت الإدارة الأميركية انزعاجها مما بات يعرف بمسألــة دستور كردستان، الذي جرى إقراره في البرلمان الكردي في تجاهل للانزعاج الأميركي الأول الذي أُبدي حين صوغه وإعلانـــه. يضـــاف إلــى هذا اتجاه حكومة الإقليم إلى إبرام صفقات نفط وغاز باستقلال عن الحكومة المركزية، مما يتيح لتحذيرات من نوايا «انفصالية» أن تجد لها سنداً في الوقائع تلك. وفي الأيام القليلة الفائتة، تعاظمت التفجيرات الدموية، ويجد معظمها لنفسه طريقاً للصلة بالحالة الكردية، سواء بسبب مواقع بعض تلك التفجيرات في قرى محافظة نينوى التي يسيطر عليها البشمركة، أو بسبب أصوات تتهم القوى الكردية المهيمنة بالقيام بها.
وفي الحيثيات، تساق فرضيات تتصل بالصراع السياسي الكردي مع نوري المالكي، والرغبة في إبراز عجزه عن إحكام سيطرته على الموقف الأمني، والسعي إن لم يكن لإفشال الحكومة المركزية، فعلى الأقل لتحجيم قدراتها. بل تصل المبررات إلى إيراد وظائف ابتزازية لتلك العمليات المتسمة ببشاعة تفوق الحدود، تتعلق بمساومات على ترتيبات الانتخابات النيابية المقبلة، في كانون الثاني (يناير) 2010، والتي تكتسب أهميتها الكبرى من كونها ستنتج البرلمان الذي سيشهد انسحاب القوات الأميركية من أرض الرافدين، بحسب الموعد المفترض له. وهناك بالطبع المبرر الذي يعتد به من يرون أن الأمور في غاية الوضوح والبساطة: أنه ليس من مصلحة الأكراد حصول انسحاب أميركي من العراق، سيخسرون به القوة المحتضنة لهم، وسيلحق بالتوازن الحالي القائم تعديل كبير ينهي عهد «الفرعنة» الذي مارسوه الخ… ويرى أصحاب هذا الرأي في ما صدر مؤخراً عن المسؤولين الأميركيين، برهاناً على صحة رأيهم.
فقد قال هؤلاء إن الوضع غير المستقر في المنطقة الشمالية من العراق قد تدفع بهم إلى تأخير سحب قواتهم من هذه المنطقة تحديداً، في ترتيب خاص مستقل عن الإجراء العام!
ومن المثير فعلاً، سياسياً كما معرفياً، مراقبة الكيفية التي تتحول فيها أحياناً بعض الخصائص، هي نفسها، من النعمة إلى النقمة (أو العكس). فمن سوء حظ الأكراد اليوم، أن المنطقة التي تقع كردستان ضمنها تختص بتكوين متعدد الانتماءات الإثنية والدينية، المتقاطعة والمختلطة في شكل كبير ومعقد. وهو ما لم يكن مصدر قلق للأكراد طالما كانوا هم المعتمدين، وبقوة، في التركيبة السالفة، سيما وأنهم فعلياً الجماعة الأكبر، والأحسن تنظيماً وإمكانات وخبرات. بل بالعكس. فقد كانت الهيمنة على منطقة بهذا القدر من التعدد، والغنى، والأهمية الإستراتيجية، تمنح الأكراد مكانة فريدة، وتجعلهم في موقع من ينبغي خطب وده وإرضاؤه باستمرار. ولكن هذا التعدد والتشابك يصبح اليوم مصدر صراع مرير بين الأكراد والجماعات الأخرى، ينبغي على الأوائل خوضه حفاظاً ليس على كل «الفرعنة» السابقة، ولكن على أكثر ما يمكن من تسليم الآخرين لهم بالتفوق… بينما الآخرون هؤلاء يجنحون نحو الانعتاق! وهي وضعية مقلقة جداً للأكراد، سيما وأنهم يعرفون أنه رغم كل النفوذ السابق، لم تُحل مسألة كركوك مثلاً، الغنية بالنفط والغاز، وفق ما كانت القوى الكردية المهيمنة تريد لها. وهم يعرفون ولا شك أن مسألة بحجم كركوك لا يمكن أن ترد اليوم في «حل ترضية» مهما بلغت المناورات والابتزازات.
والحق، أن ما كان ملفات ابتزاز أو مناورة بيد الأكراد قد أضحى ثقيل الوطأة عليهم، ومن ذلك كل ما يعني تركياً في شكل مخصوص كمسألة حزب العمال الكردستاني أو وضعية تركمان العراق، أو في شكل أعم يتعلق بحيثيات النفوذ التركي في العراق ومداخله… وهو الذي يستدعي كلاماً عن لعبة الشطرنج القائمة حوله.
ليس الأمر إذاً «توتراً عرقياً بين العرب والأكراد»، وإن اتخذ هذا المظهر، كما هو يتخذ مظاهر أخرى. وإنما هو حاجة ملحة لإعادة تعريف المشاريع الذاتية القائمة، ومراجعتها على ضوء المستجدات: فلا المشروع الأميركي بقي هو نفسه في المنطقة، ولا العراق من دون قوات أميركية هو البلد المحتل نفسه، ولا الحضور الأميركي في العراق – النفوذ والتحكم – سيختفي كسحابة صيف، بل هو اليوم يتلمس الأشكال الممكنة لممارسته المقبلة… وكل هذه بالمناسبة إشكاليات لا تخص أكراد العراق وحدهم بل كل المجموعات السياسية والكتل الاجتماعية. ولكنها، وفي ما يخص الأكراد، تتخذ حجماً مضاعفاً بسبب الحساسية الإقليمية الفائقة للمسألة الكردية، وبسبب تضخم الموقع الذي احتلوه في العراق. كل ذلك فيما المشروع الوطني لا تظهر إرهاصاته. فهل ينتهي الاحتقان العقيم إلى حمام دم؟
الحياة