التفاوض السوري الإسرائيليحسين العوداتصفحات العالم

المفاوضــات وأوهــام التسويــة

حسين العودات
تعلن معظم الدول العربية صباح مساء بأن السلام هو خيارها الإستراتيجي، وأنها نبذت الحرب وأبعدتها إلى الأبد، وتعمل جادة لبدء مفاوضات مع الحكومة الإسرائيلية، وتوسط من هب ودب من دول العالم القريبة والبعيدة لتكون عراباً لهذه المفاوضات أو راعياً لها أو وسيطاً فاعلاً مع الولايات المتحدة لترعاها، بحجة أن هذه ستكون شاهداً يمنع الطرف الإسرائيلي من التراجع عما يقبله في المفاوضات.
وتقول الأدبيات السياسية ووسائل الإعلام في معظم البلدان العربية، أن هذا السبيل، أي خيار السلام الاستراتيجي، والمفاوضات المباشرة، والرعاية الأميركية، هي الوسيلة الناجعة للوصول إلى تسوية عادلة وشاملة.
والتزاماً مع هذه المنطلقات درجت البلاد العربية منذ مؤتمر مدريد 1991 وربما منذ حرب أكتوبر1973، على تقديم المبادرة تلو المبادرة، بهدف إقناع إسرائيل والولايات المتحدة بالقبول بالتفاوض وصولاً للتسوية، وتحتوي كل مبادرة تراجعاً سياسياً أو عملياً مشهوداً، وبفضل هذه المبادرات أصبح موقف معظم الدول العربية من عودة اللاجئين غامضاً، ومن حدود الرابع من حزيران متردداً، وتراجعت عن رفضها القاطع السابق لبناء المستعمرات، وتراخت المقاطعة.
ولم يعد معمولاً إلا بالمقاطعة من الدرجة الأولى، واخترقت بعض الدول العربية لاءات الخرطوم، وأقامت إما علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، أو مكاتب رعاية مصالح، أو مكاتب تجارية، ولم تعد بعض الدول العربية تجد غضاضة في الاجتماع بالإسرائيلي ومصافحته واستقباله على أرضها، وهي تذكر الأميركان والأوروبيين أنها من دعاة السلام، ومن العاملين للوصول إليه، وتعتقد أن هذه السياسة هي طريق فعالة لتليين الموقف الإسرائيلي، وكسب الرضا الأميركي والأوروبي.
وبالتالي هي سبيل الوصول إلى تسوية عادلة وشاملة ومتوازنة تعيد الحقوق، وتريد أن نعتقد معها بصحة هذا الافتراض، حتى أن من يقول غير ذلك صار متهماً في بلدان عربية عديدة، بأنه متطرف، وقصير نظر، ومنحاز للأيديولوجيا على حساب السياسة، ولا يستطيع قراءة الأحداث والظروف الموضوعية وتطورات السياسة العالمية، ولم يبق سوى اتهامه بمعاداة السلام، وحب المغامرة، وجر الأمة إلى طريق موحشة تقودها إلى الهاوية.
على الجانب الآخر، تزداد المبادرات الإسرائيلية صلفاً وتطرفاً، فبعد أن قبلت الحكومة الإسرائيلية في مدريد مبدأ الأرض مقابل السلام، تراجعت شيئاً فشيئاً فأصبح شعارها هو السلام مقابل السلام، وبعد أن وافقت على اقتراح اللجنة الرباعية بإيقاف الاستيطان، تراجع قبولها ليصبح إيقاف الاستيطان باستثناء احتواء النمو الديموغرافي الطبيعي.
وهذا لا يعرف أحد في العالم حجمه ومقداره وحدوده وحاجاته، وبعد أن قبلت بمبدأ حل مشكلة اللاجئين حولت هذا القبول إلى ما هو أسوأ من الرفض، أعني حل هذه المشكلة خارج إسرائيل، أي بتوطينهم في البلدان العربية وفي غيرها، أو بالتعويض عليهم بأموال من بلدان عربية، ثم بعد أن قبلت مداورة بحل الدولتين وضعت شروطاً على الدولة الفلسطينية المقترحة تحولها إلى لا دولة، كما صرح الناطق باسم السلطة الفلسطينية، أعني دولة بلا حدود ولا سيادة ولا حرية التواصل مع العالم الخارجي، وبدون حق التصرف بثرواتها ومياهها، مما يجعل الحكم الذاتي أكثر استقلالية وتحقيقاً للسيادة والكيان منها.
وفي الوقت نفسه، تستخف الحكومة الإسرائيلية ليس فقط بالحقوق العربية والمصالح العربية، بل أيضاً بمقدسات العرب وقيمهم الدينية والأخلاقية والتاريخية من خلال تهويد القدس وتسييجها بالمستوطنات وهدم بيوت ساكنيها وإجلائهم.
وهكذا تتضح الصورة أو المعادلة: طرف إسرائيلي صلف مخادع طامع يحتل الأرض ويعتدي على المقدسات، ويلغي الكيان الفلسطيني، ويصر على الاستيطان، ويرفض الاعتراف بالحقوق العربية، بل بأي حقوق عربية، وكلما أطلق مبادرة جديدة يضمنها مزيداً من التصلب والطلبات غير المشروعة، ويزداد شراهة واستخفافاً بالعرب ومصالحهم، ويبدو أنه حتى لو قبل العرب معه السلام مقابل السلام سيبادر لطلب شيء جديد قد يكون فرض الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة إلى عقود قادمة.
وطرف عربي يختار الحكايا والكلام والتراجع وإطلاق المبادرات التي تفقد محتواها مع الزمن، فيستبدل بها مبادرة جديدة تحمل مزيداً من التنازل، وينتظر رضى الأميركيين والأوروبيين الذين لا يرضون، وقبول الإسرائيليين الذين لا يكتفون بما لديهم بل يخبئون مطامعهم ويودعونها الزمن، على أمل استرجاعها عندما يضعف الموقف العربي أكثر ويقترب من التلاشي في مجال تأثيره وقوته. أما المؤسسات الدولية فهي تراقب ولا تقوى على شيء، ويصبح القانون الدولي والشرعية الدولية بلا معنى.
وفي الوقت نفسه تدلس الدول الكبرى وتنافق وتدعم إسرائيل وتبيع العرب كلاماً ولغواً ومبادرات لا مضمون لها، ولجة إعلامية تهز الجبال، والموقف العربي يتراجع، والقوة العربية تتلاشى، ولم تفكر معظم الدول العربية لا بالقوة ولا بتوازن القوى، ولم تُعد النظر بقناعاتها وتتذكر أن الخيار الاستراتيجي للسلام، مهما كان مضمون هذا السلام، إنما يحتاج لتوازن قوى من نوع ما، يدخل فيه الاقتصاد والموقف السياسي والعلاقات الدولية والتحالفات، كما تدخل فيه أيضاً القدرات العسكرية والجبهة الداخلية المتراصة والوحدة الوطنية، ومن البديهي أن العربدة الإسرائيلية لن ترتدع إلا إذا تغير ميزان القوى وهو الوحيد الكفيل بتغيير تطرف الحكومات الإسرائيلية ومواطنيها.
وهكذا لن يتحقق سلام عادل إلا في إطار نوع من توازن القوى، أما سلام بين كيان إسرائيلي قوي مدعوم من قوى كبرى، وبين دول عربية ضعيفة تراهن على قوة حجتها في المفاوضات ودعم القرارات الدولية لحقوقها، فهو سلام لن يتم، وستبقى التسوية وهماً.
البيان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى