المعارضات العربية بين المبدئية المكلفة والمكاسب السريعة
د. سعيد الشهابي
برغم تعدد الصعوبات والتحديات التي تواجه المعارضات العربية كالسجن والتعذيب والتهجير والتدجين، ثمة إشكالية فكرية لم تناقش الا نادرا. تتمثل هذه الاشكالية بصعوبة المواءمة احيانا بين مستلزمات العمل المؤثر وما يقتضيه من علاقات عامة ايجابية (خصوصا لدى القوى الخارجية) والالتزام بالمواقف المبدئية خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الجوهرية للأمة.
وربما كانت هذه الاشكالية أصعب في عهد الرئيس الامريكي السابق، جورج دبليو بوش الذي رفع شعار ترويج الديمقراطية، بعد ان اتضح ان باراك اوباما ليس معنيا بهذا الشعار. مع ذلك تواجه المعارضات أزمة في مدى الالتزام بالمواقف المبدئية في زمن اصبح المال الذي تستحوذ عليه الحكومات الاستبدادية اكثر ضرورة خصوصا في مجال العمل الاعلامي المنظم والعمل السياسي ‘المتطور’. ومع ان هذه الاشكالية ليست جديدة، فانها أصبحت في الحقبة الاخيرة تضغط على بعض ‘المنظرين’ لحركات المعارضة خصوصا الاسلامية منها لأسباب عديدة. اولها شعور البعض بضرورة اضفاء السمة المهنية على العمل المعارض والتخلي عن انماط العمل التقليدي الذي تطغى عليه العفوية والبساطة او السذاجة احيانا. ثانيها: انتقال قطاعات كبيرة من المعارضة الى خارج بلدانها وتأثرها بأجواء الغرب التي تفرض مستويات عليا من الأداء والعرض على غرار أخلاقيات الاسواق الراسمالية التي تركز على ثقافة ‘العرض’ و’التسويق’ لتطوير ادائها التجاري. ثالثها: التأثر النفسي والفكري، بوعي او بدونه، لدى الرموز الناشطة ورغبتها في محاكاة المؤسسات الغربية القائمة على الحرفية والمهنية بعيدا عن انماط العمل التطوعي المتواضع. رابعها: توجه الحكومات لتنظيم عملها ضد معارضيها بأشكال حديثة، وتخصيص موازنات هائلة لتوظيف شركات الاعلام والعلاقات العامة، وشراء مؤسسات حقوقية واعلامية مرموقة، او بعض موظفيها لمساعدتها على التصدي لمعارضيها او حرمانهم من خدمات تلك المؤسسات. خامسها: التحول التدريجي، بسبب تصاعد أساليب القمع السلطوي ضد الفعاليات الشعبية كالمظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، نحو العمل السياسي والاعلامي والحقوقي في خارج الحدود، الامر الذي يتطلب اشكالا جديدة للعرض والتسويق.
ولكي يكون التعاطي مع هذه الاشكالات موضوعيا، يقتضي الامر مناقشة الحكمة من وراء هذا التحول، ومدى فاعليته. وربما الاهم من ذلك مناقشة المقولة القائلة بان التغيير في البلدان العربية لا يتم الا بموافقة الحكومات الغربية خصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وبالتالي، حسب هذا القول، فما لم يتم التأثير على مواقف حكومات هذه الدول او طمأنتها بـان ‘مصالحها ستكون محفوظة’ فيما لو حدث تغيير سياسي جوهرية في انظمة الحكم، فستظل داعمة لأنظمة الاستبداد. انها مقولة تتكرر كثيرا، ولكنها بحاجة لنقاش موضوعي لان هناك من يعارضها ويعتقد بان هذه الدول لن تغير مواقفها الداعمة، سياسيا وامنيا وعسكريا، لتلك الانظمة التي تحقق لها ما تريد، وان شعارات الدمقرطة التي طرحت في العقد الاخير من قبل ادارة جورج بوش انما كانت للاستهلاك العام من اجل تمرير سياسات العسكرة والحرب والتدخل في شؤون المنطقة. ويرى اصحاب هذا الاتجاه ان التغيير انما ينطلق من الداخل، وان اي تغيير بفعل خارجي مباشر لم يؤد الا الى المزيد من المحن والازمات. يشير هؤلاء الى عدد من الوقائع: فما من بلد تدخل الغربيون فيه الا واحدثوا فيه من المصائب ما يشيب طفل الرضيع. فالتغيير في العراق أحدث مشاكل كبيرة، اولها حالة الفوضى التي عمت على مدى خمس سنوات والتأسيس لتصدعات دينية ومذهبية خطيرة اودت بحياة مئات الآلاف من الأبرياء، ثانيها ادخال العراق في دوامة التصدع والتقسيم بالتأسيس للتباينات العرقية والمذهبية، ثالثها: السعي المتواصل لاخضاع ذلك البلد للهيمنة الامريكية المتواصلة، رابعها: اضعاف دوره الاقليمي باضعاف نظام حكمه المركزي والسعي لخلق كانتونات صغيرة تتنافس في ما بينها بعيدا عن الروح الوطنية ومستلزماتها. وبالتالي فلا بد من اعادة الحسابات بين الربح والخسارة بين هذه الحقائق وقيام نظام حكم يتوفر على ممارسة ديمقراطية متطورة قياسا بالتجارب الاخرى في المنطقة. وتدخل الغربيون في الصومال، وها هي جراحه ما تزال تنزف منذ ان سقط نظام سياد بري الديكتاتوري قبل ثمانية عشر عاما، ولا يبدو في الافق ما يشير الى قدرة ذلك البلد على استعادة عافيته ولملمة اوصاله بعد ان سادت ثقافة التقسيم والتناحر والتطرف، برغم وجود نظام ‘ديمقراطي’ جاء بالرئيس الحالي شيخ شريف الى الحكم في الانتخابات الرئاسية التي حدثت مؤخرا.
ولا تقل افغانستان ‘ديمقراطية’ عن بقية الدول التي شهدت تدخلات غربية مباشرة، فالرئيس حميد كرزاي منتخب، وكذلك البرلمان الافغاني الذي يضم عددا من البرلمانيات من كافة الطوائف العرقية والمذهبية. ولكن ما ثمن ذلك؟ وهل ان الوضع مرشح للتحسن والتطور في السنوات المقبلة خصوصا مع استمرار الحرب في مناطق شاسعة واستمرار التحدي الذي تمثله طالبان والقاعدة. وثمة تساؤلات عما اذا لم تكن هذه الحركات جزءا من المخطط الانكلو امريكي لابقاء افغانستان في حالة اضطراب دائم لاحتواء ظواهر التطرف والعنف من خلال الوجود العسكري شبه الدائم للقوات الامريكية والبريطانية. انها نماذج للديمقراطية ‘المستوردة’ او ‘المفروضة’ من خلال التدخل العسكري المباشر، ولا يبدو انها مشجعة للآخرين خصوصا اذا اقترنت بارتهان تلك الدول بالنفوذ الغربي شبه الدائم، وما يعنيه من فقدان السيادة الحقيقية خصوصا في مجال السياسات الخارجية والدفاعية. هذا الوجود الغربي اصبح عاملا مشجعا على الفساد المالي والاداري وعنصر تكريس للاختلاف بين قاطني تلك البلدان على أسس الانتماء العرقي والديني، وهي عناصر لا يمكن ان تؤدي الى قيام دول قوية على اسس وطنية وايديولوجية متينة. وفي ظل هذه التجارب يجدر بالمعارضات العربية اعادة قراءة ملفات التغيير التي تتبناها من منطلقات جديدة تأخد في حسبانها تلك التجارب غير المشجعة، وتؤكد عددا من الامور: اولها ان التغيير يجب ان ينطلق من الداخل بارادة شعبية وتصميم من قيادات المعارضة وفق برامج تضعف قبضة الانظمة وادواتها القمعية.
ثانيها: ان يكون التغيير وفق اجندة التغيير المطروحة داخليا بعيدا عن محاولات ارضاء الآخرين، خصوصا بعد ان ثبت انهم لا يرضون الا اذا ابتلعوا الكعكة كلها وتركوا القشور لاهل الارض، ثالثها ضرورة التمسك بالثوابت التي انطلقت المعارضة على اساسها وعدم المساومة عليها من اجل ارضاء الآخرين. رابعها: ان تكون حركات المعارضة صادقة مع شعاراتها في ممارساتها الادارية والقيادية والابتعاد عن ظواهر الاستعلاء والغرور والاستبداد، ولا بد ان تمارس مبادئ التنافس الشريف في مجالات القيادة والادارة. خامسها ان تحافظ على التزاماتها المبدئية وعدم المساومة عليها، خصوصا ازاء القضايا التي تعتبر من ثوابت الأمة كالموقف من فلسطين ومن وحدة المسلمين وسيادتهم على أراضيهم ورفض التدخل الاجنبي ايا كان شكله او اهدافه، والتعامل مع القوى الخارجية بموضوعية بعيدا عن مشاعر الخوف والاستكانة.
ربما من اسوأ ما يصيب حركات المعارضة المبدئية حدوث تغير في نفسيات رموزها، بحيث يتعمق لديهم الاستعداد لتقديم التنازلات لكسب بعض المواقف السياسية. وثمة امثلة على ذلك. فانظمة الحكم العربية في الوقت الحاضر تسعى للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي، اما بسبب ضعفها الذاتي او بغياب وازع مقاطعته، او بضغوط واشنطن والعواصم الغربية. وقد اصبح هناك تسابق بين هذه الانظمة لاظهار ‘الاعتدال’ امام واشنطن ولندن، وذلك باطلاق تصريحات ودية تجاه قوات الاحتلال، وبدء التواصل معها، اما باللقاءات المباشرة على هامش الاجتماعات الدولية في نيويورك او دافوس اوغيرها، او بالزيارات العلنية والسرية، كما فعلت البحرين مؤخرا. وهنا تراهن هذه الانظمة على استمرار الدعم الغربي لوجودها بتقديم استعدادها للتنازل عن ارض فلسطين في المقابل. فكيف يكون موقف المعارضة؟ هذه اشكالية مبدئية تتطلب توافقا بين اطياف الحركات المعارضة خصوصا الاسلامية منها. فالأنظمة تعتقد ان هذه من اهم نقاط القوة لديها، فهي مستعدة لمسايرة الأجندة الغربية بينما ستكون المعارضة امام خيارين صعبين: فاما معارضة التطبيع وخسارة اي تعاطف من الحكومات الغربية او مسايرته وفي ذلك تنازل عن المبدأ يفقدها المصداقية ويحدث بلبلة في قواعدها. وعلى سبيل المثال، فهناك قناة اعلامية تعتبر في طليعة رافضي التطبيع مع ‘اسرائيل’ ولكن لوحظ ان مسؤوليها مستعدون لـ ‘التعاون’ مع نظام خليجي يهرول للتطبيع مع ‘اسرائيل’ باستلام بعض المساعادت المالية والامتناع عن استضافة معارضي ذلك النظام. تلك القناة تعاني من ضغوط مالية، وهو امر طبيعي، اذ ان الجهات الصامدة في عالمنا العربي والاسلامي محكومة بالنصب والحرمان وفق سياسة ‘تجفيف المنابع’ لكل من يعارض الاحتلال. المعارضة في ذلك البلد الخليجي رفضت تقديم اي تنازل في ما يتعلق بفلسطين وقضيتها، وشنت الحملات ضد النظام الذي اصبح يتصدى لمشروع التطبيع والاستسلام.
الاشكالية التي تواجهها حركات المعارضة هنا تتعمق اذا كانت خطة عملها تنطلق على أساس الدعم الغربي والاعتقاد بمقولة كثر مرددوها بـ ‘ان التغيير غير ممكن بدون عنصر الضغط الخارجي الغربي’. فلن يحدث اي تغيير بدون امريكا وبريطانيا، وعليه فلا مجال للعناد والغرور والتهور، ولا بد من ‘العقلانية’ و’البراغماتية’ في هذا الجانب. فاذا كانت هناك رغبة في التغيير فلا بد من اقناع الحكومات الغربية بانه لن يؤثر على مصالحها ولن يأتي بأنظمة حكم رافضة للاحتلال الاسرائيلي. هذه المقولة تزداد تعمقا في نفوس البعض وتفرض نفسها في ممارسات بعض اطياف المعارضة خصوصا تلك التي تعمل ضمن الاطر السلطوية. وهنا تصبح المشكلة متعددة الابعاد. فمن يصنع التغيير؟ وهل يمكن حدوثه من الداخل ام انه لن يحدث الا بوجود ارادة لدى الدول الاساسية مثل الولايات المتحدة؟ وما الموقف ازاء مطالب تلك الدول بالتطبيع مع قوات الاحتلال؟ فهل ‘المصلحة’ تقتضي غض الطرف عن ذلك من اجل تحقيق مصلحة أعلى؟ ام لا بد من الجهر بالموقف ومنع الانحدار في منزلق التطبيع؟
أو ليس المساومة خطوة اولى على طريق الفناء والسقوط المبدئي والاخلاقي؟ هل المبدئية مضادة للنصر؟ ربما تبدو هذه التساؤلات ساذجة او ديماغوجية، ولكنها تتطلب اجابات من قبل رموز الحركات الاسلامية المعارضة خصوصا ان خطوات واسعة تتخذ لتدشين العهد الصهيوني في المنطقة، وهو عهد يتطلب كسر شوكة الصامدين ورافضي الاحتلال والعدوان والاستبداد. ان مسيرة الالف ميل نحو التطبيع ومعه السقوط الاخلاقي والانساني تبدأ بخطوة تتمثل بالصمت على ممارسات الاحتلال والتوقف عن مقاومته لكسب ود الدول الغربية. هذا في الوقت الذي ترى فيه الانظمة الاستبدادية استمرارها يعتمد على دعم الغرب لها باعتبارها مدافعة عن مصالحه ومستعدة لمد الجسور مع الكيان الاسرائيلي. وما الضغوط الامريكية على الدول العربية لتوقيع اتفاقيات التجارة الحرة الا من اجل تقنين الغاء المقاطعة العربية لكيان الاحتلال.
قد يعتقد بعض قطاعات المعارضة ان المصلحة العليا تقتضي غض الطرف عن بعض السياسات والمواقف التي كانت تعد في خانة الممنوعات حتى سنوات قريبة، ولذلك فمن الضروري العودة الى الاصول والانطلاق على قاعدة متينة بان معارضة انظمة الاستبداد والقمع وما يتطلبه ذلك من تضحيات وما يؤدي اليه من سجون وتعذيب وتهجير وتنكيل انما هي تكليف ديني وانساني يهدف لمنع الظلم واقامة العدل وترويج قيم المساواة والحكم الصالح، وان ذلك لا يتحقق الا اذا كان تحقيقه يتطلب تقديم تنازلات كبيرة تفرغ المشروع الاصلاحي الذي ترفعه المعارضة من محتواه. ولكي يتم الحفاظ على ذلك المحتوى الراقي من المبادئ السامية والاخلاق والقيم، يقتضي الامر الاستمرار في التحلي بارضية أخلاقية عالية، وعدم الانجرار وراء سراب الدعم الغربي غير المضمون الذي لا يخلو من شروط تعجيزية ليس على مستوى التطبيع مع قوات الاحتلال فحسب، بل على تنازلات عن السيادة واستسلام للارادة الغربية التي تعبث بأمن بلدان المسلمين وشعوبهم بدون حياء او خجل. وباعادة قراءة سياقات التدخل الغربي في البلدان العربية والاسلامية، يتضح ان النتائج كانت أقل كثيرا مما كان متوقعا، وان تبعاتها فاقت كل التوقعات. من هنا فمن الضروري ان يكون رفض الاحتلال مبدأ غير خاضع للنقاش او السجال، رضي من رضي وغضب من غضب، فهو قيمة عليا يجب ان تصان وتحمى، لانها الطريق الى التحرر على كافة المستويات، الفلسطينية والاسلامية والقطرية.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
القدس العربي