أوباما وفظائع أبو غريب: مزيد من عار الحنث بالوعود
صبحي حديدي
قبل أيام صدر، بالإنكليزية، كتاب غاري وينكلر ‘معذَّبة: لندي إنغلاند، أبو غريب، والصور الفوتوغرافية التي هزّت العالم’، والذي يروي سيرة المجنّدة الأمريكية بطلة الصورة الأشهر عن فظائع سجن أبو غريب العراقي، حيث تظهر وهي تجرّ سجيناً عراقياً عارياً، مقيّداً من عنقه بطوق جلدي. هي المعذَّبة، بفتح الذال، وليست المعذِّبة التي تعرّف العالم بأسره على سحنتها، وزملائها، حين افتُضحت جرائم الجيش الأمريكي في ذلك السجن، ربيع سنة 2004؛ ليس لأنها لم تمارس التعذيب في يقين وينكلر، بل لأنها كانت بمثابة كبش فداء لقاء تبرئة كبار مجرمي الحرب، في وزارة العدل والبنتاغون والبيت الأبيض ذاته.
وإذا صحّ أنها، وستة من زملائها فقط، دفعوا الثمن بالنيابة عن المذنبين الكبار، فإنّ ذلك الثمن لا يجعل منهم ضحايا تعذيب في كلّ حال، بل يبرهن على شيوع المهزلة في القضاء العسكري الأمريكي، بعد استفحال المأساة في التغطية الأخلاقية لأفعال الجيوش الأمريكية هنا وهناك في العالم. لقد حُكم على إنغلاند بثلاث سنوات سجن، قضت نصفها وأُعفيت من إكمال النصف الثاني؛ وتلك كانت حال شارلز غرينر (خمس سنوات)، إيفان فردريك (أربع سنوات)، جيريمي سيفيتس (سنة، مع الطرد من الجيش)، سابرينا هارمان (صاحبة الصورة الشهيرة بدورها، حيث تقف ضاحكة خلف هرم من الموقوفين العراقيين العراة: ستة أشهر)، جيفال دافيز (ستة أشهر)، وميغان أمبول (الطرد من الجيش).
وفي شهر أيار (مايو) سنة 2004، كانت مجلة ‘نيويوركر’ الأمريكية قد نشرت، على موقعها الإلكتروني ثمّ في الطبعة الورقية لاحقاً، تحقيقاً مذهلاً للصحافي الأمريكي الشهير سيمور هيرش برهن فيه أنّ انفضاح أخبار الهمجية الأمريكية في ذلك السجن (كما كانت قد ترددت قبل أيام، مدعمة ببعض الصور الأولى، في البرنامج الإخباري 60 Minutes، على قناة CBS) هي الفصل الأوّل من مجلّد خزي رهيب، أشدّ مقتاً وبشاعة وشناعة. وأمّا في ناظر العالم، المراقب لما فعلته وتفعله أمريكا في أفغانستان قبل العراق، فإنّ تلك الهمجية كانت تتجاوز السياسات الأمنية، لتضرب بجذورها عميقاً في باطن ثقافة العنف، ونزعة التفوّق، وتحقير الآخر، وامتهان النفس الإنسانية، وشهوة الإستعباد…
وبالطبع، كما في كلّ سياقات مماثلة، يقتضي الإنصاف التذكير بأنّ هيرش هو المحقق الصحافي صاحب الفضل في تسليط الأضواء على جرائم حرب أمريكية وحشية، مثل مذبحة ‘ماي لي’ التي ارتُكبت في فييتنام بأمر من الضابط الأمريكي وليام كالي (قرابة 347 قتيلاً من المدنيين الفييتناميين)؛ ونبش حقائق مجزرة الرميلة، التي ارتكبها الجنرال الأمريكي باري ماكيفري غرب البصرة في 2/3/1991 (الجنرال هذا أصدر الأمر الحرفي التالي: ‘تدبّروا طريقة تمكنني من ذبح كلّ هؤلاء العراقيين الأوغاد’… المنهارين المهزومين المنسحبين المتراجعين على الأوتوستراد 8 غرب حقل الرميلة)؛ وتفاصيل ‘مذكرات التعذيب’ الإدارية التي كتبها أمثال جون يو، أستاذ القانون في جامعة كاليفورنيا والمتعاقد مع وزارة العدل، وتضمنت تزويد الإدارة بالمسوّغات القانونية للإلتفاف على اتفاقية جنيف حول تحريم التعذيب.
تحقيق هيرش عن سجن أبو غريب أثبت أنّ الإدارة كانت تعرف، أو هكذا يقول المنطق البسيط، في ضوء التقرير الذي أعدّه العميد أنتونيو م. تاغوبا، وسلّمه إلى البنتاغون أواخر شباط (فبراير) ذلك العام، وانطوى على 53 صفحة حافلة بوقائع رهيبة حول إدارة السجون العراقية في ظلّ الإحتلال الأمريكي. وقال تاغوبا إنه في الفترة بين تشرين الأول (أكتوبر) وكانون الأول (ديسمبر)، سنة 2003، ارتكب الجيش الأمريكي أعمال تعذيب ‘إجرامية، سادية، صاخبة، بذيئة، متلذّذة’، سرد التقرير بعضها، هكذا: صبّ السائل الفوسفوري أو الماء البارد على أجساد الموقوفين، الضرب باستخدام عصا المكنسة والكرسي، تهديد الموقوفين الذكور بالإغتصاب، السماح لأفراد الشرطة العسكرية أن يقطبوا جراح الموقوفين الذين يُصابون بجروح جرّاء التعذيب، اللواط بالموقوفين عن طريق استخدام المصابيح الكيماوية أو عصا المكنسة، واستخدام الكلاب العسكرية لإخافة الموقوفين وتهديدهم…
وأثناء صحوة ضمير، أو سعياً إلى تبييض الصفحة، كشف الرقيب فريدريك أنّ تقنيات التعذيب الأخرى كانت تتضمن إجبار الموقوفين الذكور على ارتداء ثياب داخلية نسائية. واللافت، هنا، أنّ الرجل حين استفسر عن هذه الممارسات، قيل له ببساطة: هكذا تريدنا المخابرات العسكرية أن نفعل! تفاصيل من هذا القبيل سردتها أيضاً العميد جانيس كاربينسكي، التي اقترن اسمها بهذه الممارسات لأنها كانت قائد فوج الشرطة العسكرية في العراق، والمسؤولة عن السجون الثلاثة التي ورثها الإحتلال الأمريكي من جلاّدي صدّام حسين. ففي مقابلة مع ‘نيويورك تايمز’، قالت كاربينسكي إنّ عناصر المخابرات العسكرية وعناصر المخابرات المركزية هم الذين كانوا يتولون مسؤولية الخلية ‘1A’، وهي الوحدة الأمنية عالية السرّية التي تشرف على التحقيقات في سجن ‘أبو غريب’، وأنّ هؤلاء تمنّوا عليها أن لا تتدخّل في شؤون تلك الخلية، بل أن تمتنع حتى عن دخول أيّ من الزنزانات التي تجري فيها التحقيقات!
التطورات اللاحقة لم تدع أيّ ظلّ للشكّ في أنّ تقنيات التعذيب، سواء في سجن أبو غريب أو في غوانتانامو أو في ‘السجون الطائرة’، كانت تٌستخدم بعلم كبار رجال الإدارة: نائب الرئيس ديك شيني، مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، وزير الدفاع دونالد رمسفيلد، مدير المخابرات المركزية جورج تنيت، وزير العدل بيل اشكروفت، والرئيس جورج بوش نفسه الذي كان على اطلاع تامّ بما يجري، وكان موافقاً عليه. وفي تقرير اللجنة العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ الأمريكي، جاء أنّ رمسفيلد أجاز 15 ‘وسيلة تحقيق حادّة’، وأن نسخة من الوثيقة تلك طُبّقت حرفياً في سجن أبو غريب. وفي ما بعد سوف يقول جاك غولدسميث، رئيس مكتب الإرشاد القانوني في وزارة العدل: ‘إذا عذّبتَ فإنّ لديك حجة قانونية للدفاع عن نفسك؛ وإذا تعذّرت تلك الحجة، فإنّ قانون التعذيب لا ينطبق عليك ما دمت تحت راية سلطة الرئيس’!
وإلى جانب سيرة لندي إنغلاند، كانت آخر فضائح القضية أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما ارتدّ عن وعده الإنتخابي، بأن تكون الشفافية القصوى هي سياسته بصدد هذا الملفّ، وقرّر عدم نشر المزيد من صور تلك الفظائع، معتبراً أنها ‘ليست مثيرة على نحو خاصّ، إذا ما قورنت بالصور المؤلمة التي نتذكرها من أبو غريب’، وأنّ ‘العاقبة المباشرة الاولى لنشرها هي إلهاب الرأي العام الأمريكي وتعريض قوّاتنا العسكرية على مخاطر أكبر’. والحال أنّ هذا ليس رأي العميد المتقاعد تاغوبا (الذي أحالته إدارة بوش إلى التقاعد سنة 2007، بسبب عدم رضائها عن تقريره، رغم أنه سعى إلى تبييض صفحة الكبار)، فهو يعتبر أنّ الصور ليست البتة أقلّ ‘إثارة’ من تلك التي يلمّح إليها أوباما، إذا لم تكن أفظع! ففي حوار مع صحيفة ‘ديلي تلغراف’ البريطانية، نشرته قبل أسابيع، قال تاغوبا إنّ الصور التي حظرت إدارة أوباما نشرها تمثّل مشاهد أقدام عسكريين أمريكيين على اغتصاب سجينات، واللواط بسجناء، والإعتداء الجنسي على آخرين باستخدام أدوات مثل المصابيح والأسلاك وأنابيب الفوسفور. وأضاف تاغوبا أن الصور تنطوي على مشاهد تعذيب، وامتهان، واغتصاب، وشتى مظاهر الإنحطاط. إن مجرد وصف تلك الصور مريع في حدّ ذاته، صدّقوني، فكيف بمشاهدتها’!
ويسود الاعتقاد بوجود قرابة 2000 صورة، تمثّل 400 حالة لإقدام المحققين العسكريين الأمريكيين على تعذيب الموقوفين، سعت إدارة بوش إلى حظر نشرها، واليوم تقتفي إدارة أوباما أثرها، بذريعة ‘رفع معنويات’ الجيش الأمريكي، وطيّ صفحة الماضي، والإنتقال إلى طور جديد. ليست هذه هي فلسفة العدل والقضاء والعقاب في ديمقراطية عريقة ودولة قانون، سيما إذا تذكّر المرء أن قرار أوباما بعدم نشر الصور إنما يعطل، ضمناً، حكماً قضائياً صريحاً قضى بنشرها، كان قد حصل عليه ‘الإتحاد الأمريكي للحريات المدنية’ سنة 2004، وخلال حملته الإنتخابية كان أوباما قد وعد بأن إدارته لن تستأنف ضدّ ذلك الحكم.
ورغم أنه لا يتردد في وصف وحشية تلك الصور، ويقول علانية: ‘لم يعد هناك أدنى شكّ في أن إدارة بوش قد ارتكبت جرائم حرب، والسؤال الوحيد هو ما إذا كان الذين أمروا بالتعذيب سوف يخضعون للمساءلة’؛ فإنّ العميد المتقاعد تاغوبا يشفق على الرأي العام الامريكي من نشر تلك الصور. حتى هيرش، الذي كشف الفظائع منذ البدء، لا يبدو مستعداً للإفصاح عن كل الحقيقة، بخصوص ما تردد عن وجود حالات اغتصاب أطفال، ولكنه قال، في خطاب أمام ‘الإتحاد الأمريكي للحريات المدنية’، إنّ أطفال السجينات العراقيات لم يتعرّضوا للإغتصاب، على مرأى ومسمع أمهاتهم، فحسب؛ بل جرى ذلك مع تسجيل بالصوت والصورة، وتلك التسجيلات هي اليوم بحوزة حكومة الولايات المتحدة!
ورغم هذا كلّه، نقلت صحيفة ‘لوس أنجليس تايمز’ الأمريكية، قبل أيام، أنّ وزير العدل في إدارة أوباما، إريك هولدر، ينوي نفض الغبار عن التكتيك الفاسد ذاته الذي اعتمدته الإدارة السالفة في معالجة ملفات سجن أبو غريب، أي إلقاء التهمة على عاتق حفنة محدودة من ‘التفاحات الفاسدة’، لكي يبقى الصندوق سليماً طاهراً نقياً. وأعلن الوزير أنّ التحقيقات في تورط أجهزة عليا، في البنتاغون والمخابرات المركزية، سوف تكون ‘ضيقة’ النطاق، مقتصرة على ‘ما إذا كان البعض قد ذهب أبعد من التقنيات’، المجازة في المذكرات التي صدرت عن إدارة بوش، وسمحت بالتعذيب. ولعل الأمر سوف يقتصر، وفق ما نقلت الصحيفة عن مصدر مطلع من داخل الوزارة، على التعذيب بواسطة الإغراق في الماء، وتحديداً ما جرى سنة 2002 مع السعودي زين العابدين محمد حسين (أبو زبيدة) والباكستاني ـ الكويتي خالد شيخ محمد، لإجبارهما على إقامة صلة بين منظمة ‘القاعدة’ ونظام صدّام حسين، لتبرير مخطط غزو العراق أمام الرأي العام الأمريكي والغربي.
ولقد بات جلياً اليوم أن تراجع أوباما عن وعوده بتأمين شفافية المعلومات حول سجن أبو غريب، إنما تم بضغط مباشر من رهط الجنرالات المتشددين في البنتاغون، من جهة أولى؛ والحملة الشعواء المتواصلة التي يشنّها ديك شيني، وتحتضنها مختلف وسائل الإعلام الأمريكية بحماس بالغ، من جهة ثانية. ولا ينبغي للمرء أن ينسى حقيقة اصطفاف الحزب الديمقراطي خلف معظم سياسات الرئيس السابق بوش، بصدد غزو أفغانستان والعراق وما سُمّي بـ ‘الحملة على الإرهاب’، بما في ذلك التواطؤ على استخدام تقنيات التعذيب، والإبقاء على معتقل غوانتانامو، و’السجون الطائرة’، وسواها.
ويبقى أن من المشروع التساؤل عما إذا كان يجوز للضمير الإنساني أن ينتظر من أي رئيس أمريكي ـ أوباما، أول رئيس أسود؛ مثل أبراهام لنكولن، ‘محرر العبيد؛ أو وودرو ولسون، بطل المثالية المؤمن بالتفوق العرقي للبيض ـ أن يرى صندوق التفاح الفاسد برمته، في جذور فساده الأخلاقية والثقافية التاريخية، وليس محض تفاحات فاسدة هنا أو هناك. وهيهات أن تلد الأرحام الأمريكية رئيساً على هذه الشاكلة!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –
تلقى كل جندي من قبل عزو القوات العسكريةالمتعددة الجنسيات للعراق نشرة مترجمة، استشراقية بامتياز، عن كيفية التعامل مع ذلك “المحلي” العراقي وغرائب مايكره وما يحب (الكاره للنساء والكلاب…)
لن يكون بمستغرب أن تعذيب السجناء تبع هو الآخر لنشرة نفسية-اجتماعية من المؤسسة الاستعمارية طالت كيفية نفاذ وأداء التعذيب كما يجب…