قضية فلسطينميشيل كيلو

مشكلة فلسطين وحياتنا اليومية

ميشيل كيلو
في أيام الطفولة الأولى، وكنت في السادسة، انفجرت مشكلة فلسطين في حياتنا اليومية، فوصلت ‘طراطيش’ منها إلينا نحن الأطفال، الذين كنا في سنوات الدراسة الأولى . كان والدي رئيس مخفر درك في صافيتا، وكنت أذهب وشقيقي الأكبر رياض إلى مدرسة ابتدائية قريبة من الغرفة التي كنا نسكنها. ذات يوم، قام مدير المدرسة بجولة على الصفوف، أعلمنا خلالها أننا سنقوم بمظاهرة في البلدة عشرة آلاف نسمة ـ احتجاجا على ما يجري في فلسطين من تنكيل بإخوتنا، ومن تعديات صهيونية / يهودية عليهم.
في اليوم المقرر، رتبنا أساتذتنا في رتل طويل، وشرعوا يدربوننا على هتاف حواري سنطلقه في المظاهرة، يقول خلاله الأستاذ على مسامع تلامذته: ‘فلسطين أخذوها’، فيرد هؤلاء بأعلى قدر يستطيعونه من الصراخ:’ فشروا، فشروا’ . لا تنسوا أن ترفعوا أصواتكم قدر ما تستطيعون، كان الأساتذة يقولون لنا. وبالفعل، أخذ مئات الأطفال، الذين بالكاد تكسو عظامهم ثياب والحفاة في معظمهم، يصرخون ‘فشروا، فشروا’، وهم يجوبون الشارع الوحيد في البلدة. حين بلغوا مخفر الدرك، مقر السلطة الرئيسي، ألقى مدير الناحية خطابا طمأنهم فيه إلى نصر العرب وهزيمة العدو، وأنهى خطابه مكررا ما كانت أصواتهم الواهنة قد بحت من ترداده: فلسطين لن يأخذوها، فشروا، فشروا .
رغم مضي الوقت، أتذكر اليوم أيضا النقاشات الهامسة، التي كانت تدور بين أبي وأمي. كان هو يريد الذهاب متطوعا إلى حرب فلسطين، وكانت هي تعترض وتبكي متوسلة أن لا يذهب، فقد يصيبه مكروه يحملها وزر أربعة أطفال لا معين لهم في الدنيا سواه.
كان يقول: يا غالية، إذا راحت فلسطين خسرنا كل شيء. يجب أن نحميها، وإلا أدى ضياعها إلى ضياعنا جميعا، وإلى ضياع حتى لقمة الخبز التي يأكلها أطفالنا. أنت والله غلطانة ولا تعرفين كيف تدافعين عن أولادك. كانت لا تقتنع، فكان ينخرط في غضب وصمت المقهور، المغلوب على أمره.
ذات يوم، عاد أبي إلى البيت ـ الغرفة إياها – كان غاضبا إلى حد القتل، يشتم ويلعن رئيس الجمهورية وحكومته ويسبهما بأقذع الألفاظ، فقد عاد زميله في الخدمة أبو سعيد من فلسطين، واكتشف أنهم غرموه خمسا وعشرين ليرة، وهو مبلغ يعادل راتبه الشهري، لأنه أطلق خلال القتال طلقات يفوق عددها العدد المسموح به. منذ ذلك اليوم، لم يتوقف حديث أبي عن الخيانة، ولم يقلع عن شتم الحكام، وبدأ يتعاطف مع أحزاب المعارضة، كالحزب الشيوعي وحزب البعث. في جبلة، وكنت قد بلغت الرابعة عشرة، رفض الانتساب إلى حركة التحرير، التي أسسها الشيشكلي لدعم حكمه، وكان انتساب موظفي الدولة إليها مستحسنا، إي إجباريا، وتعرض لعقوبات بسبب موقفه قادته إلى السجن مرات متعددة . عندما كان يعتقل بعثي أو شيوعي خلال تظاهرة مناوئة للنظام، كان يطلب منه أن يصرخ بأعلى صوته، بينما عصاه تدق الحائط أو الأرض. وقد روى لي صديق قديم كان من أوائل شيوعيي جبلة، أن والدي لم يمسه بسوء خلال التحقيق، وأنه جلب له ذات فجر ‘سندويشة فلافل’ وطلب منه أن يتجلد ويصمد، وأن لا يعترف بشيء في التحقيق، الذي سيجريه معه في الصباح قائد درك المدينة، ابن ….
كانت فلسطين حاضرة معنا في كل غرفة سكناها وكل مكان ذهبنا إليه. وقد أضيف إليها في الخمسينيات ظهور جمال عبد الناصر وما أحدثه في حياتنا من انقلاب عاصف بعثه فينا الأمل، وأدخل حبه إلى قلوبنا جميعا، إلى اليوم وحتى الممات. كنت في ذلك الوقت يافعا في أول سن الشباب، لكنني كنت دائم الانهمام بفلسطين، دائم التحدث عن تحرر العرب وعن اشتراكيتهم ووحدتهم، حتى اعتقد بعض زملاء الدراسة أنني فلسطيني، لا بل إن أحد أعمامي شكاني ذات يوم إلى أبي: ابنك هذا فلسطيني، ولك العمى شو صاير له، ما لو حديث غير فلسطين، فقال أبي بجلافة: ‘هوي هيك صح’، وقفل الحديث. هل كنت أتحدث عن أبي وطفولتي أم كنت أحكي عن فلسطين؟. ما أصعب الفصل. ان فلسطين لم تكن فقط موضوع حديث، بل كانت قبل كل شيء معنى، جعلت سياسات العرب عام 1948 منه عذابا مقيما لأبي، حمله إلى أن فارق الدنيا، وجعل هو منه زادا لروحه المعذبة، أمده بالقدرة على العيش، وبالعناد الضروري للاعتزاز باحتضان القضايا الخاسرة، التي أريد لها أن تجعلنا نفضل الموت على الحياة، ألف مرة كل يوم.
ما قولك الآن، لو وسعنا المدى، وتحدثنا عن فلسطين التي يحملها كل واحد منا، عنيت وطنه، الذي لم يرحّل عنه أو يهجّر منه، لكنه تغرّب عنه أو غرّب فيه، حتى صار جلده مخيمه، وفارقت روحه فتنة الحياة، وتحولت لحظات عمره إلى دهور من الشقاء، وتاه وضاع، دون أن يقنع في الغالب أحدا، كما أقنع الفلسطيني الآخرين، بأن له قضية؟
لنعد إلى فشروا، فشروا!. ما الذي تبدل منذ ذلك الحين، لا أقول إلى الأحسن، لأن التبدل في وطننا العربي لم يكن في السنوات الخمسين الماضية إلى الأحسن، لأسفك وأسفي طبعا؟ هل تبدلت العقلية التي أملت ذلك الهتاف، أم تغير خطاب مدير الناحية؟ هل تبدل موقع فلسطين الحقيقي من حياتنا، وهل صارت ما كان يجب أن تكونه دوما بالنسبة لنا: مسألة روحية وضميرية، أم أنها بقيت على ألسنتنا وحدها، زبد يذهب جفاء، كما قال قرآننا الكريم ورددت أنت في محاضرتك؟ لقد انتزع أربعمئة وخمسون ألف مهاجر صهيوني فلسطين من خمسين مليون عربي، فهل كانوا أخذوها لو تعاملنا معها، آنذاك، بغير لغة ‘فشروا، فشروا’؟ وهل كانوا نجحوا في الاحتفاظ بها واحتلال غيرها والاحتفاظ به، لو تعاملنا معها بعد عام 1948 باللغة الملائمة، لغة الحق الذي يخلق بنا أن نموت إن لم نستعده؟
في ذلك الزمن، كان يقال للفلسطيني: استرح أنت ودع لنا القتال. واليوم يقال له: قاتل أنت ودعنا نستريح. من أي شيء يريدون أن يستريحوا؟ هل يجوز أو يحق لمهزوم أن يستريح؟ أليس في استراحته موته، أم أن موته صار استراحة يهنأ بها وينعم؟
ثم يقولون: إن فلسطين هي قضية العرب المركزية، ويقولون أكثر من ذلك: إنها قضية مقدسة. لنقبل أن تكون فلسطين مجرد قضية، فهل صحيح أنها قضيتنا المركزية؟ القضية المركزية هي القضية التي يتعين كل شأن وكل أمر، والتي لها الأولية على كل ما عداها. فهل صحيح أن كل أمر من أمور العرب، وكل شأن من شؤونهم، يتعين بقضية فلسطين، وأنهم يخضعون كل شيء لها، بما في ذلك مصالحهم ونظمهم وخياراتهم وعلاقاتهم، داخل بلدانهم وخارجها؟ لا تبتسم ولا تضحك، حتى إن كنت تبتسم وتضحك من الاستياء والألم!.
قلت في دمشق: نحن بحاجة إلى العروبة. وأقول لك من دمشق: ما أحوجنا إلى العرب، إنني أنظر حولي فلا أراهم، فهل تراهم أنت، أين هم العرب، أين هم العرب؟!.
إنك تستطيع أن تسمع اليوم أيضا أصوات أطفال صافيتا، الجياع والعراة والحفاة، وهم يردون على قلق مدرسيها الصارخين ‘فلسطين أخذوها ‘ بكلمتين مطمئنتين: ‘فشروا، فشروا’!. هل خرجنا حقا من ذلك الزمن، من كلماته وشعاراته ومعادلاته وشخوصه؟. قال تولستوي: إن راحة الضمير غدت ضربا من النذالة!. كم كان على حق!.

‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى