قضية فلسطينميشيل كيلو

فلسطين أمام لحظة حاسمة

null
ميشيل كيلو
من الأفضل أن نتشاءم، عندما نتحدث عن فلسطين. هذا ما تقوله لنا تجربتنا التاريخية معها كقضية تتعقد وتتفاقم منذ نيف وقرن. إلا أن هذا التفاقم بالذات هو ما يبعث الأمل في النفس، فالمشروع الصهيوني، الذي خال أنه تخطى العقبة الفلسطينية بسهولة، يجد نفسه بعد حوالي نصف قرن من قيامه وبعد اعتراف العالم كله بشرعيته مشتبكاً مع من ظن أنه تخلص منه: شعب فلسطين، شعب الجبارين “رحمة الله عليك يا ياسر عرفات”، ومجبرا على الاعتراف بأن هذا الشعب مشكلة لا سبيل إلى التخلص منها، وأن حلها يستلزم جهوداً تذهب في غير الاتجاه الذي كانت الصهيونية قد رسمته، تقوم على قبول دولتين فوق أرض فلسطين غربي النهر، مع أن قيام الفلسطينية منهما يشكل علامة فشل مخز للمشروع الصهيوني ولدولته وجيوشه الجرارة، وتالياً باعثاً على التفاؤل.
ليست قضية فلسطين مركزية بالنسبة إلى السياسات العربية. لو كان لها هذا المكانة، لكان التطور في منطقتنا أخذ وجهة مغايرة لتلك التي أخذها في الواقع، ولكان خدم المصالح العربية ولم يخدم أعداء العرب. لكن فلسطين هي، رغم كل شيء، عقدة مستعصية تتشابك عندها وتتقاطع جميع الخيوط والسياسات والمصالح، في عموم المنطقة العربية والمجاورة كما في السياسات الدولية الموجهة إلى الوطن العربي وجواره الإقليمي، لذلك كان التخلص منها صعباً أول الأمر، وغدا مستحيلاً بمرور الأيام، لأسباب أهمها إطلاقاً صمود شعبها الأسطوري، الذي لم يتمكن أحد من إخراجه من ساحات وميادين النضال والقتال طيلة نيف ومائة عام، رغم ما استخدم ضده من عنف، “إسرائيلي”، وما تعرض له من ملاحقات ومحاولات تقسيم وتفتيت عربية دائمة، ورغم الهزائم المتتالية التي حلت بدول عربية لم تجد وسيلة ترفع بواسطتها السكين الصهيوني عن أعناقها غير التصالح مع اليد التي تحملها، والامتناع عن مقاتلة “إسرائيل” أو استفزازها.
بفضل هذا النضال المجيد والممتد، وما صحبه من تضحيات هائلة، تحولت فلسطين من قضية ظن العالم أنه تم تخطيها عبر إقامة “إسرائيل” وطرد معظم العرب منها، إلى عقدة استعصت على الحل العسكري، تحدت قدرات الصهاينة وجيوشهم، وبقيت تقاتل في جميع الأحوال، إلى أن اقتنع العالم بأن ما ارتضاه عام 1948 ليس قابلا للحياة، وأن لفلسطين شعبها الذي يجب أن يعود إلى ما احتل من أراضيها ذلك العام، وإلا استحالت تهدئة المنطقة، وانتفت قدرة الغرب والصهاينة على منع دخول الدول القريبة والبعيدة على خط الصراع الدائر فيها، وصار صعبا، إن لم يكن مستحيلا، ضبط الأوضاع في دائرة الشرق الأوسط العربية والأجنبية القريبة، والدائرة الإسلامية، والعالمثالثية، ودائرة الصراع الدولي بين العمالقة. ومن يتابع خط الأحداث البياني خلال السنوات الخمسين الماضية، سيضع يده على حقيقة بارزة هي تزايد عدد الدول المهتمة بحل للقضية يراعي مصالح الشعب الفلسطيني ويقر له بحق الدولة الحرة والسيدة والمستقلة، وتشابك وتداخل المصالح الوطنية للدول مع هذا الحل، الذي غدا مصلحة استراتيجية عليا لبلدان كثيرة، تغطي رقعة متعاظمة الاتساع من مساحة العالم، ويشكل موقفها حالة ضاغطة على أمريكا بالذات، التي فهمت خلال العقود القليلة الماضية أن مصالحها تتطلب قيام الدولة الفلسطينية، وأن دعم “إسرائيل” لن يكون قادراً على فرض الحل الصهيوني، حل “الدولة اليهودية” الواحدة، في أرض فلسطين التاريخية غرب النهر، خاصة أن تهاوي هذا الحل وقع بعد هزيمة عام ،1967 التي أوصلت الكيان الصهيوني إلى ذروة قوته وتوسعه وجبروته العسكري والأمني، وانحدرت بالعرب إلى درك لم يخرجوا منه إلى اليوم، لكنها بعثت، في الوقت نفسه، العنقاء الفلسطينية من رمادها، وحولتها إلى قوة، كان وزير الحرب “الإسرائيلي” الأسبق موشي دايان قد تبجح بأنها تشبه بيضة في قبضته يستطيع كسرها متى شاء، لكنها صمدت وكسرت أصابعه.
تتصرف أمريكا تجاه الموضوع الفلسطيني كأنها وعت الدرس الذي وصفت بعض ملامحه، وهي تعلم أن تجاهل المصالح الفلسطينية عاد عليها بضرر شديد، وجعلها مكروهة ممقوتة من شعوب المنطقة وكثير من مواطني العالم، وأن أي قدر من القوة لن يكون كافياً لكبح مقاومة شعب فلسطين، ولكسر تطلعه نحو دولة تقوم فوق أرضه الوطنية الخاصة، التي يجب أن تتحرر من الاحتلال.
هل يعني هذا أن أمريكا صارت تنظر إلى الصراع بأعين محايدة أو موضوعية، وأنها تسلم بقيام دولة يحدد شعب فلسطين هويتها وسماتها ودورها؟ لا، إن تخلي أمريكا عن الحل “الإسرائيلي” لا يعني أنها تتبنى بالضرورة الحل الفلسطيني، ولا يعني أنها لن تعمل على خلق تناقضات بين الفلسطينيين تضع مواقفهم، وقد تجعلهم يقبلون بحلول انتقالية طويلة الأمد، يمكن تحويلها إلى حلول دائمة، في حال حدث مزيد من التدهور في علاقات الفلسطينيين بعضهم مع بعض، أو أمكن وضع سياسات العرب في مواجهة مصالح فلسطين العليا، أو أمكن إيجاد حلول بديلة، تبدل طبيعة الوضع الراهن، وتقنع أطرافاً فلسطينية نافذة بقبولها، كلياً أو جزئيا، بوصفها بدائل يمليها الواقع، وتملي قبولها الواقعية السياسية والمرحلية في الحلول، التي يعرف الفلسطينيون أنفسهم أنها طور إجباري يصعب عليهم القفز من فوقه.
ثمة دلائل على ميل أمريكا نحو بدائل من هذا النمط، أهمها موقفه من الاستيطان، الذي لا ينكر شرعيته تحت أية صورة من الصور، ولا يطالب بتطهير الأرض الفلسطينية منه باعتباره مخالفا لقرارات الأمم المتحدة، التي تحظر على المحتل تغيير الطبيعة الجغرافية والديموغرافية للأراضي المحتلة، بل يحوله إلى مسألة تفاوضية تسبق تسويات جزئية يتم بلوغها هنا أو هناك أو يليها، ويبادل تجميده بتطبيع عربي مع “إسرائيل”، كأن على العرب دفع ثمن للاحتلال الخارج على القانون، ومكافأته على ابتلاعه أرضا وطنية تخص شعبا آخر.
ثمة طريقتان لكبح فرص اللعب الأمريكي المحتمل، هما:
– الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولها معنيان: وحدة الشعب حول منظمة التحرير أو “حماس”، وكذلك وحدة التعبيرات السياسية الفلسطينية حول برنامج وخطط عمل موحدة ومتوافق عليها. هذان الشكلان من شأنهما تفويت فرص اللعب والمناورة على “إسرائيل” وأمريكا، ويفضل منهما الشكل الثاني، وإن كان كلاهما قادرين على وضع حد للانقسام الفلسطيني، كي لا يفيد
منه العدو في لحظة حسم حساسة من الصراع معه.
– وحدة الموقف العربي حول فلسطين، وسد سبل التطبيع والاتصالات مع العدو قبل منع الاستيطان والتخلي التام والصريح عنه، وتحول الموقف الأمريكي إلى موقف يتفق والقرارات الدولية حول القضية الفلسطينية، وابتعاده عن موقف “إسرائيل”، المعادي لهذه القرارات ولإرادة معظم دول العالم. إن وحدة الموقف العربي كفيلة بفرض الحل الفلسطيني – العربي على الاحتلال، وبمنع تذبذب السياسة الأمريكية، التي لا تنظر، حتى الآن، إلى “إسرائيل” كدولة تحتل أراضي غيرها ولا بد لها من إخلائها، وإنما تعتبر الضفة والقطاع مناطق متنازعاً عليها، ل “إسرائيل” حق في الحصول عليها مساو لحق الفلسطينيين. أكرر، الموقف العربي حاسم، لأنه هو الذي سيحتوي اللعب الأمريكي والتلاعب “الإسرائيلي”، وهو الذي سيفتح الباب واسعا أمام قيام الدولة الفلسطينية: الحرة والسيدة والمستقلة، لأنه هو الذي سيبرهن لواشنطن على عبثية سعيها إلى اللف والدوران من حول الحل المطلوب: حل الدولة الفلسطينية الواجبة التحقيق!.
هل يقوم الفلسطينيون والعرب بدوريهما؟ هنا مربط الفرس وبيت القصيد. وهنا عنصر الحسم وتدارك الفرص الضائعة، التي لطالما خدمنا عدونا من خلالها ومكناه من أرض وشعب فلسطين.
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى