صفحات ثقافية

ثلاثـــة وجـــوه لعســـف واحـــد

null
عباس بيضون
ثلاثة كتب تتحدث عن ثلاثة بلدان، الصين وأفغانستان والشيشان، ليس بين البلدان الثلاثة جامع خاص وليس مؤلف الكتب الثلاثة واحدا الا اننا نشعر مع ذلك انها كتبت بالحبر نفسه فهي جميعها رحلات في الداخل، في دنغوان الصينية وكابول الافغانية وغروزني الشيشانية. لن يعود العالم أفضل بعد هذه الزيارات. سنقرأ ونحن نلمس أنفسنا، بين البرهة والبرهة، لنتأكد من أننا ما زلنا أنفسنا ونتأكد أكثر من اننا لا زلنا في أماكننا على الأرض، فالعالم صعب صعب ومهما نالنا منه هنا فنحن من الناجين.
«فتيات المصانع» لـ «ليزلى ت تشانغ» كتاب ساحر من 400 صفحة وهو برغم هذا الحجم ليس شيئا سوى متابعة بضع فتيات صينيات من جيش 130 مليونا من العمال المهاجرين الذين يتجولون بحثا عن عمل داخل الصين، ويتكون أغلبهم من الريفيين النازحين من قراهم.
كلنا قرأنا من قبل، هنا وهناك، نتفا عن بناء عملاق اقتصادي بوسائل عبودية، بدءا بتشغيل السجناء أنفسهم بالسخرة جريا على تقليد ستاليني. عن تفاوت هائل بين النمو الاقتصادي والخدمات المتدنية الصحية والتعليمية. عن حرمان الطبقة العاملة في البلد الشيوعي من أي حق قياسا على أي بلد آخر ما يشجع الشركات الأجنبية على نقل معاملها اليه. في كتاب فتيات المصانع، لا نقرأ أرقاما بل نتابع سيراً. تبدأ ليزلى تشانغ كتابها الضخم من مدخل جانبي. انه الصداقة الصعبة بين العاملات في المصانع، حيث تنام كل 12 فتاة في مهجع واحد وحيث تتخذ بعض الفتيات أسماء مستعارة، وحيث تتقاضى الواحدة 400 يوان أي 50 دولارا تضاعفها بالعمل الاضافي. يحتجز المعاشان الأولان كي لا تغادر العاملة قبل الستة أشهر واذا غادرت خسرتهما. هناك اذاً هذا التجوال الذي لا يتعب بين المعامل حيث لا حماية ولا حقوقا فعلية. ليس سوى الاتكال على النفس. الجرأة والمهارة والحظ هي التي تؤهل صاحبتها لترتقي. عليها ان تتعلم الكانتونية وهي واحدة من لغات «الهان» فالانكليزية فالكومبيوتر. هذه العوامل الثلاثة تؤهل صاحبتها لتنجح ولتشق طريقا وسط فلتان كامل وفقدان لأي ضمانات. على العاملة المهاجرة أيضا أن تساعد أهلها ولم يكونوا ليسمحوا لها بأن تغادر لولا هذا الأمل. حين تعود ستقع من جديد تحت سلطتهم واذا كانوا تسامعوا بأن لها حياة خاصة في المدينة فلن يسمحوا لها بالعودة، وربما تعرضت لإيذاء أكبر. رغم ذلك تتابع النساء، وهن أكثر نجاحا من الرجال، صبر الصينيين الاسطوري. الكاتبة صينية الأصل وذات جذور عريقة وهي ايضا تتابع مصائر أسرتها، من الجد الذي عاد من أميركا ليخدم شعبه الأمر الذي أدى إلى مقتله، الى الفروع التي هاجرت إلى تايوان او عانت، بهذا الصبر الاسطوري الذي قرأنا عنه في غير كتاب، الثورة الثقافية.
«بائع الكتب في كابول» لـ «آسين سيريستاد» رواية افغانستان عبر تاريخ أسرة هي تلك التي أسسها المهندس الأفغاني الذي آثر ان يغدو صاحب مكتبة ليتطور في ذلك إلى أن يصبح مستوردا وناشرا وصاحب عدة مكتبات، أي صاحب امبراطورية حقيقية في مجاله. سنرى هنا العسف الطالباني الذي كان يؤدي إلى احراق الكتب بمجرد وجود صور شخصية عليها فكل صورة بشرية وثنية وكفر. منع الفتيات من العمل والتعليم تحصيل حاصل. هناك ايضا الهجرة إلى باكستان وانقسام العائلة هنا وهناك. اما العسف الحقيقي، بعيدا عن طالبان، فهو الذي يوقعه المجتمع على النساء. المهندس القديم محب الكتب لا يمانع في اخراج بناته وأبنائه من المدارس وإبقاء شقيقاته شبه عبدات في منزله. يتزوج امرأة ثانية أمية لكن شابة ويدللها نسبيا على حساب امرأته الأولى وعلى حساب أمه وشقيقته التي تعمل كالعبدة في البيت وتتلقى صابرة عسف امها وشقيقها ثم أبناء شقيقها الذكور. وتستغلها امها لخدمتها في كبرها وتحول دون زواجها. انه تراتب في العبودية يجعل الابنة تحت عسف امها وأخوتها وأبناء أخوتها. لكنها هي وأمها واقعتان تحت عسف الابن الذي يطردهما من منزله في ساعة غضب، فتنتقلان إلى منزل الابن الثاني حيث تكتب لهما عبودية جديدة.
ثم هناك «البركة»، وما أدراك ما البركة، تلك الدرع التي ترتديها المرأة وتغطيها من رأسها إلى قدميها تاركة للعينين قماشا مشبكا يتيح لهما ان تبصرا لكن ليس كما ينبغي، فهما تبصران الى الأمام وتصعب عليهما الرؤية من الجوانب، وعلى المرأة التي ترتدي البركة ان تحاذر في مشيها. لكن البركة من ناحية أخرى صعــبة التهوية والمرأة التي ترتديها تشعر بفساد الهواء، بل ان البركة تحمل دائما رائحتها الخاصة، رائحة المنزل وربما رائحة المطبخ، فتســير صاحبتها بها معزولة لا عن المكان الخارجي فحسب ولكن عن الفــضاء الخارجي. انها تسير بدون ان تخرج، وهي في الطريق، من جو منـــزلها ومطبخها.
«ملاك عزوزني» للمؤلفة نفسها. رحلة في داخل عزوزني وهذه أيضا، تقريبا، قصة نساء، بدءا بخديجة «ملاك عزوزني» التي لم تنجب فحولت بيتا مأوى للأولاد المشردين الذين يتكاثرون بسبب العسف الذي يودي بالآباء والأمهات ويتركهم بلا رعاية. النسوة يكافحن فيما الرجال يُصطادون كل لحظة ولا يعودون غالبا. يختفون تحت أقل شبهة ويتركون أرامل وأولادا في الشوارع. رغم ذلك كانت الأرامل وقود العملية الانتحارية الضخمة في مسرح موسكو. انها رواية شعب صغير اقتلع ذات يوم بكامله ورحل عن مواطنه، واذا كان ستالين بقي رمزا قوميا فبفضل ممارسات كهذه. هناك رواية التصفيات الجماعية والعقل الانتحاري الذي أفضى إلى لاشيء، لكن هناك أيضا الصورة التهريجية للطقم الحاكم باسم الروس وبوتين، اسرة قد يروف وقد يروف الشاب والجمهورية الدينية المزعومة التي يبنيها تحت رعاية بوتين.
ثلاثة كتب عن ثلاثة بلدان. الثلاثة من «نشر الدار العربية للعلوم ناشرون» والاخيران بالمشاركة مع «الاختلاف». لا ليس بين الثلاثة جامع خاص الا انها مكتوبة بالحبر نفسه. حبر اللاأمان واللاطمأنينة، حبر التسيب والفلتان والعيش تحت تهديد مقيم، وفي حرمان تام، وبدون أي حماية من أي نوع، ولا ضمانة بالحد الأدنى. ليس سوى الاتكال على الذات في هواء اجتماعي وحكومي وفي ظل عسف لا يطاق وبلا حدود. ليس عسف الحاكم وحده لكن عسف المجتمع وعسف التقاليد، والنساء في كل مكان هنا موضوع العسف الأثير، من عاملات الصين إلى نساء افغانستان تحت ثقل البركة والعائلة والذكور في كل سن، إلى نساء عزوزني البطلات اللواتي يكافحن وحدهن ولا يسلمن مع ذلك من التقاليد ومن جريمة الشرف.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى