صفحات ثقافية

كتب كثيرة، كتب لا تنتهي

null
امجد ناصر
هناك، دائماً، كتاب جاهز ليكون سبباً مشهراً للتغيير أو قلب الأشياء رأساً على عقب. يحدث ذلك، أحياناً، في الواقع، لكنه يحدث، غالباً، في المخيلة. نعرف بعضاً من الكتب التي صنعت كتباً وألهمت كتاباً ألهموا بدورهم كتاباً آخرين، ولكننا لا نعرف، بالضبط، تلك الكتب التي غيرت ‘الواقع’. لا بدَّ أن ذلك حدث ولكن ليس على النحو الذي تطمح إليه الكتب. ألا نسمع أبناء الثورات يقولون إن ‘النظرية’ صحيحة لكن الخطأ في ‘التطبيق’؟ ليس هناك، على ما يبدو، أكثر اغواء من رائحة الحبر وهسهسة الكلمات لرمي الأمثال والعبر، العلل والأسباب، كأحجار نرد مارقة، على طاولة بوسع الكون. هناك كتب للحب، وكتب للخيانة، كتب للوفاء، وكتب للغدر، كتب تقول وكتب تصمت. كتب تكذب فتنفد وكتب تحترق بصدقها الذي لا يصدق. هناك كتب يقال إنها تصنع التاريخ وكتب تنسب اليها الثورات والانقلابات واضطراب البشر على حبال الطاعة والقهر والحرية المخاتلة. ثمة كتب كثيرة قبل النبي الذي هام على وجهه بين النهر والصحراء وسمع صوتاً، ليس ككل الأصوات، يقول له ‘يا يحيى خذ الكتاب’، وبعد تلك الامانة الثقيلة التي عُرضت على الجبال فرفضتها، فتنطع لها كائن يمشي على قدمين، هناك إله جنوبي يسمى ‘كُتْبَة’ كان يطوف في مدينة منحوتة في الصخر تُدعى ‘البتراء’. لا أستغرب أن تكون الكتابة، عندنا، منسوبة إليه. ثمة كتب كثيرة. كتب لا تنتهي. كتب نقشت على جدران الكهوف، على رُقم طينية، على رقاع من الجلد، على ورق من البردي، على مناديل الوداع، على أذرع العاشقين والقراصنة، على ظهور الأسرى. كتاب يراه الحرس فتمر، وكتاب يقرأه السلطان فتهلك.
قابلت، مرة، في البحرين رجلاً مأخوذاً بالكتب المخطوطة باليد. أراني مقتنيات متحفه الشخصي من الكتب والمخطوطات. بين كتبه، التي خُطت في بلاد لا يربط بينها رابط، وعكف عليها رجال عاشوا في أزمنة مختلفة، كتاب مقدس كُتب على حبة قمح وبجانبه عدسة مكبرة. فكَّرتُ، والرجل المأخوذ بالكتب يريني عجيبته، بذلك الشخص الذي خطَّ، بصبر ودقة مذهلين، كلاماً مقدساً بإبرة لا تُرى على حبة قمح، وخطر لي، لحظتها، أن لا شيء مثل الكلمات أرَّق حياة الانسان وأوهمه بالخلود المستحيل. الرجل جامع الكتب العجيبة يقرأ ولكنه لا يكتب. فبعد أن رأى كل تلك الكتب وجمعها تحت سقف واحد عرف، ربما، أن كل شيء كُتِبَ من قبل ولا حاجة لسفح مزيد من الحبر، لكني فكَّرت، أيضاً، بأولئك الذين يكتبون. فلو أنهم عرفوا عدد الأشجار التي تحولت كتباً ربما ما كتبوا. ولكن كلا.. فالكائن الذي قبل ‘الأمانة’ التي رفضتها الجبال محظوظ لأنه قادر على الذكرى والنسيان معاً.
‘الإنسان’ في لسان العرب كلمة مشتقة من النسيان. ينقل ذلك ابن منظور عن ابن عباس. إنها تعني أيضاً: الظهور، عكس الجن الذين دأبهم ‘الاختفاء’. التناقض في معنى كلمة ‘إنسان’ في اللسان العربي محيرٌ بقدر ما هو صحيح. لعله بسبب تلك الثنائية التي تطبعنا، في العمق، أمكن لنا أن نجمع النقيضين في إيهاب واحد من دون أن يرف لنا جفن.
اتساءل: هل كان مقدراً لنا أن نعرف سعي جلجامش لفهم سر الحياة الآفلة وطلب الخلود المستحيل لولا الكلمات التي تركها لنا مَنْ خطَّ على لوح طيني تلك الأحرف الأولى عن ‘الذي رأى كل شيء’ فتغنت بذكره كلمات أخرى لم تولد بعد؟
الكتب تفكِّر، أيضاً، بكتب أخرى وتضمرها. هناك ‘كتاب الرمل’ الذي يتحدث عن كتاب لا بداية لصفحاته ولا نهاية لها والرجل الاسكتلندي الذي يقول لبورخيس أو شبحه: ‘لا جدوى من معرفة الصفحة الأولى أو الأخيرة لأنه لا وجود لشيء كهذا، أما ترقيم الكتاب فليس سوى أمر اعتباطي (ربما للقول إن حدود السلسلة اللامتناهية تقبل أيَّ عدد)، ‘فلو كان المكان لا متناهياً لكنا في أي نقطة من المكان، ولو كان الزمان لا متناهياً لكنا عند أي نقطة من الزمان’.
هناك أيضاً كتاب يتم اخفاؤه لأنه يثني على فضائل الضحك ويموت كل من يصل إليه في مكتبة مصممة على شكل مصيدة يضمها دير ناء. يقول سادن الكتاب الأعمى للمحقق الذي يصل الى مركز اللغز: ها هو الكتاب خذه، اقرأه. هيا هيا، لكن المحقق الداهية يعرف أن صفحات الكتاب منقوعة بالسم.
هذا مثل كتاب الحكيم ‘روبان’ في الليلة الخامسة من ليالي شهرزاد، حيث يكافىء السلطان ‘يونان’ الحكيم الذي شفاه من البرص بالقتل، فيدبر له الحكيم المغدور كتاباً منقوعاً بالسم ويقول له اقرأه بعد موتي. الكتاب المسموم تنقل بين ثقافات عديدة وعبر حدود الزمان والمكان. ففي فيلم ‘لا رين مارغو’ يقلب الملك، بين صليل السيوف وهفهفة ثياب عشيقات الخلسة، كتاباً ملتصق الصفحات وضعته أمه ذات الفم المزموم عند سرير غريمه على عرش مرصّع بعظام التراقي. الكتاب أخضر. فمن يشك في كتاب أخضر؟ أما الغريم المزعوم فليس سوى صديقه الذي أنقذه من ناب الخنزير البري عندما كانت سيوف المكيدة مطمئنة الى شفرتها القاطعة. لكن في ليل الخيانة المحبوكة جيداً بخيوط رفيعة من الحرير والزرنيخ لا تكفي حرارة اليد التي تربت على كتفك كي تعرف من معك ومن عليك.
بابهام مبلل بطرف اللسان وأنفاس تدفع عقارب الساعة إلى الرنة الأخيرة يتذوق الملك مصيراً طبخته عاطفة عمياء في أبرد قدورها، فيتلوى من ضحك لا يشبه ضحكاً آخر متسائلاً عن سر التصاق الصفحات. الجواب يأتيه، سريعاً، من فم كلبه الطافح بالزبد. الكتاب في مكانه الصحيح. السم كامل الدسم، لكن الذي راح ينتزع الصفحات الملصوقة بذرق الشيطان كان الشخص الخطأ.
الكتاب المفقود يغري بالسرقة الأدبية. هذا ما فعله كاتب سوري اقتفى أثر كاتب ايطالي فدبج كتاباً يروي مغامرات شاب عربي بحثاً عن مخطوطة مفقودة لابن رشد في دير ايطالي ناء، فنكون، والحال، أمام كتاب عن كتاب عن كتاب.
نسمع، دائماً، من يقول قرأت كتابا فغيَّر حياتي! قال هذا الكاتب البرازيلي كويلو، فرددها بعده شبان في أماكن مختلفة من العالم. قابلت يوماً شاباً قال لي إنه قرأ ‘الخيميائي’ فاكتشف أن ‘الكنز’ الذي يبحث عنه في الخارج موجود في داخله. لم أقل للشاب إن هذا الكتاب مسروق من كتاب آخر يحلم فيه تاجر مصري بكنز في مدينة فارسية فيقابل قاضياً فارسياً يقول له إنه، هو أيضاً، يحلم بكنز موجود تحت شجرة في المنزل الفلاني، في الشارع كذا في القاهرة. كان المنزل، لدهشة التاجر المصري، منزله الذي غادره بحثاً عن كنز في مدينة بعيدة.
كنت، أيضاً، شاباً صغيراً مثل الذي قال لي إنه قرأ ‘الخيميائي’ فتغيرت حياته. قرأت كتاباً ابتعته من مكتبة في مدينة حلب. كنت على وشك عبور ‘باب الهوى’ الى حرية تراءت لي على أرصفة بعيدة. قرأت الكتاب الذي يتحدث عن العمال وفائض الانتاج واستغلال الانسان لأخيه الانسان في قرية حدودية. عندما عدت الى مدينتي شعرت أنني صرت عرضة لرياح لا تتوقف عن الهبوب. كان علي أن أرى شخصاً صبغ التبغ شاربيه بشقرة فلاحية. كان هو أيضاً يتأبط كتاباً. تغيرت. لكني لا أعرف من الذي غيرني: الكتاب الذي قرأته في قرية حدودية أم الرجل الذي كان ينتظرني، كصدفةٍ مدبَّرةٍ، في مقهى يضجُّ بأصوات ما تعتم ان تتلاشى؟
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى