دمشق والطريق إلى السلام في الشرق الأوسط
إدوارد ديرجيان
لا يود السوريون خوض حوار تدريجي محدود النطاق مع واشنطن، بل يرغبون في حوار شامل يمكن من خلاله مناقشة كل المسائل الكبرى، وقد تكون هذه المقاربة المدعوة ‘واقعية’ أكثر فاعلية في الترويج لأجندة حقوق الإنسان من أي سياسة عدم تحاور أو محاولة عزل.
صحيح أن كثيرين استخفوا في الأشهر الأخيرة بأهمية الحوار، لكن الحقيقة تُظهر أن التحاور الاستراتيجي مع أعدائنا يبقى خطوة أساسية للمحافظة على أمن أمتنا، ولا يُعتبر التحدث إلى خصومنا علامة ضعف، شرط أن نبقي هدفنا واضحاً في الذهن.
في الوقت نفسه، يجب ألا تُمارَس الدبلوماسية بطريقة تُظهر افتقار الولايات المتحدة إلى التصميم والعزم، صحيح أن الرئيس رونالد ريغان نعت الاتحاد السوفييتي بـ»إمبراطورية الشر»، لكن إدارته أجرت مفاوضات حازمة مع النظام الشيوعي وحققت نتائج إيجابية.
تُعتبر العلاقات الأميركية السورية، التي غالباً ما تكون متوترة، خير مثال على ذلك، فيستطيع النظام السوري أن يقوّض الأمن في جنوب لبنان، ويعيق التقدم في العراق، ويتابع دعمه لـ»حزب الله» و»الجهاد الإسلامي» الفلسطيني وحركة «حماس». كذلك يتمتع هذا النظام بفرصة لعب دور بناء في المنطقة، احتمال لم يُستغل كاملاً بعد. ومن الممكن لحوار ثنائي رفيع الشأن أن يعزز مصالحنا الأمنية القومية، كما برهنت الدبلوماسية الأميركية في الماضي القريب. حين كنت سفيراً في سورية (1988-1991)، تمحورت مهمتي الكبرى حول تطبيق سياسة تحاور استراتيجي حددها الرئيس جورج بوش الأب ووزير الخارجية جيمس بيكر الثالث. كانت علاقتنا مع سورية نحو أواخر ثمانينيات القرن الماضي متوترة، لكننا أدركنا أننا من دون سورية لن نتمكن من إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، وإحراز تقدم في محادثات السلام الإسرائيلية العربية، وتحجيم بعض المجموعات الإرهابية، وضبط تهريب المخدرات، وتعزيز الأمن الإقليمي، والترويج لأجندة حقوق الإنسان، لذلك حاولنا إيجاد قواسم مشتركة بواسطة الحوار الجاد.
على الرغم من العقبات الكثيرة، توصلنا إلى أهداف ملموسة، فقد أدت مشاوراتنا في دمشق إلى وضع حد للحرب الأهلية اللبنانية المأساوية. كذلك تفاعل الرئيس السوري حافظ الأسد إيجاباً مع طلب الرئيس بوش والوزير بيكر المباشر أن يمنح دعم سورية السياسي والعسكري لعملية «عاصفة الصحراء». وفي تقدم بالغ الأهمية، ساهم التعاون الأميركي السوري خلال عملية «عاصفة الصحراء» في موافقة الأسد على خوض مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، أدت بدورها إلى عقد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991.
على صعيد حقوق الإنسان، حققنا أيضاً تقدماً. فقد مُنح اليهود السوريون حق السفر بحرية إلى الخارج، على غرار المواطنين السوريين الآخرين. وفي تنسيق لصيق مع الحكومة السورية في دمشق، بدأ إطلاق الرهائن الأميركيين في لبنان. صحيح أن الإطار التاريخي مختلف اليوم عن مطلع تسعينيات القرن الماضي، إلا أن المنطق الأساسي نفسه الداعي إلى الترويج لمصالح الولايات المتحدة بالتحاور مع سورية مازال قائماً. فالتحاور مع هذه الدولة سيروج لمفاوضات السلام بين دمشق وإسرائيل. كذلك سيبعد سورية عن علاقتها الحميمة مع إيران، ما يقلل بالتالي من نفوذ إيران في بلاد الشام.
علاوة على ذلك، يمكن للحوار الأميركي مع سورية أن يؤدي إلى تراجع دعمها لحركتي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» الفلسطينيتين و»حزب الله» اللبناني. كذلك سيعزز سيادة لبنان. ويمكن أن يضبط الحدود السورية العراقية. على نطاق أوسع، قد تؤدي علاقات أقوى مع الولايات المتحدة إلى إيجاد ظروف مؤاتية لتعزيز الإصلاح الاقتصادي والسياسي في سورية. ويمكن لدولتينا أن تستأنف التعاون الاستخباراتي ضد تنظيم «القاعدة» وغيره من المجموعات الإسلامية المتطرفة التي هددت النظام السوري في الماضي. لا يود السوريون خوض حوار تدريجي محدود النطاق مع الولايات المتحدة، بل يرغبون في حوار شامل يمكن من خلاله مناقشة كل المسائل الكبرى. وقد تكون هذه المقاربة المدعوة «واقعية» أكثر فاعلية في الترويج لأجندة حقوق الإنسان من أي سياسة عدم تحاور أو محاولة عزل.
ثمة الكثير من المسائل المهمة التي تحتاج إلى مناقشة. لكن العنصر الأساسي يبقى احتمال عقد سلام إسرائيلي سوري. فقد تمسك الرئيس السوري بشار الأسد «بخيار والده الاستراتيجي للسلام»، الذي يقوم على مبدأ الأرض مقابل السلام. ومع أن الصراع العربي الإسرائيلي يتمحور حول القضية الفلسطينية، تبقى الجبهة السورية الإسرائيلية الجوهر الجغرافي السياسي لهذا الصراع. فمن دون اتفاق سوري إسرائيلي، لن نشهد سلاماً شاملاً بين إسرائيل وجيرانها العرب، وإذا أحرز المسار الإسرائيلي السوري تقدماً، فسيلي ذلك اتفاق إسرائيلي لبناني. لذلك يلزم أن يشكّل البدء بمفاوضات سلام بين إسرائيل وسورية أولوية كبرى بالنسبة إلى الرئيس باراك أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون. منذ مؤتمر مدريد للسلام، حُقق الكثير من التقدم في مسائل الأرض وتطبيع العلاقات والاتفاقات الأمنية والماء. وأشار المفاوضون الإسرائيليون والسوريون على حد سواء إلى أن ما لا يقل عن 80% من هذه المسائل حُلّ أو ضُيّقت مجالات الخلاف فيه.
في الماضي، كانت الولايات المتحدة محاوراً أساسياً بالنسبة إلى الطرفين في هذه المفاوضات. ولكن مع غياب الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، أجرت تركيا محادثات غير مباشرة بين الإسرائيليين والسوريين وأصابت بعض النجاح. دعا تقرير لجنة بيكر-هاملتون بشأن العراق، الذي نُشر في عام 2006، سورية إلى اتخاذ خطوات محددة في مسائل تتعلق بالعراق وإيران و»حماس» و»حزب الله». كذلك ذكر التقرير أن على النظام السوري اتخاذ تدابير تتعلق بسيادة لبنان، بما فيها التعاون مع تحقيق لجنة الأمم المتحدة في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. مقابل هذه الخطوات، وضمن إطار اتفاق سلام نهائي، حض التقرير إسرائيل على إعادة مرتفعات الجولان. وعرض التقرير أيضاً منح إسرائيل ضمانات أمنية يمكن أن تشمل قوات دولية على الحدود. وإذا قبل الطرفان ذلك، فستضم هذه القوات جنوداً أميركيين. يشكل الصراع العربي الإسرائيلي والصراع بين قوى الاعتدال والتطرف داخل العالم الإسلامي مسألتين مهمتين استغلهما المتطرفون الإسلاميون بغية تحقيق مآربهم السياسية الخاصة. لذلك من الضروري أن تركز السياسة الأميركية على الترويج لتسوية سلام إسرائيلية عربية شاملة وعلى دعم المعتدلين في المنطقة باستخدام القوة الخشنة واللينة بمهارة بغية تهميش المتطرفين. ويجب أن يكون حوار الولايات المتحدة مع سورية عنصراً أساسياً في هذه الاستراتيجية.
* سفير سابق للولايات المتحدة لدى سورية بين عامي 1988 و1991 ولدى إسرائيل بين عامي 1993 و1994. له كتابDanger and Opportunity—An American Ambassador’s Journey Through the Middle East ، وهو أيضاً المدير المؤسس لـ»معهد باكر للسياسة العامة» في جامعة ريس.
EDWARD P. DJEREJIAN – Wall Street Journal
الجريدة الكويتية