سوريا تعود إلى لبنان والعالم
غسان العزي
أطلقت مصالحة الرئيسين بوش الابن وشيراك في صيف العام 2004 خطة عزل النظام السوري تمهيداً لإخراجه من لبنان، الأمر الذي ترجمه القرار 1559 الصادر عن مجلس الامن في الثاني من سبتمبر/أيلول ،2004 وقد جاء اغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير/شباط 2005 واتهام سوريا به ومظاهرات 14 مارس/آذار لتدفع في اتجاه إخراجها من لبنان. ثم توالت الأحداث من اغتيالات اتهم بها النظام السوري ومن تشكيل لجنة تحقيق دولية وانتخابات تشريعية لبنانية فازت بها القوى المناهضة لهذا الأخير لتزيد من عزلته.
في هذا الوقت كانت واشنطن التي وضعت دمشق في “محور الشر” وأقرت عقوبات ضدها تمارس ضغوطاً منسقة مع فرنسا في محاولة لتغيير سلوك هذا النظام دون استبداله. وعمد كثير من اركانه السابقين مثل عبد الحليم خدام إلى مغادرة السفينة التي تغرق. فقط ايران، التي كانت بدورها تتعرض لضغوط مماثلة، استمرت في دعمه بكافة الأشكال السياسية والاقتصادية والأمنية.
في يوليو/تموز 2006 وجدت “إسرائيل” الظرف مناسباً للتخلص من حزب الله، لكن رغم استخدامها لأكثر الأسلحة فتكاً بالبشر وتدميراً للحجر عجزت عن تحقيق أهدافها في ثلاثة وثلاثين يوماً كان الأمريكيون يلعبون خلالها دور الدرع الدبلوماسية في مجلس الأمن وخارجه. لكن انتصار حزب الله، ومن ورائه التحالف السوري-الإيراني، خلف وراءه أزمة داخلية شديدة التعقيد نتيجة رفض قوى الأكثرية اللبنانية توريط البلد في حرب غير مجدية والاستمرار في استخدامه ساحة مواجهات إقليمية. وبين نهاية العام 2006 وربيع العام 2008 جرت مياه كثيرة في الداخل اللبناني الذي كان يعيش حرباً أهلية مضمرة أو مؤجلة بين القوى الموالية لسوريا وتلك المعارضة لها.
وفي بداية مايو/ايار 2008 على خلفية قرارات اتخذتها الحكومة واعتبرها حزب الله موجهة ضد سلاحه، شن هذا الأخير هجوماً عسكرياً خاطفاً سيطر على اثره على بيروت الغربية. وهنا تدخلت قوى إقليمية ودولية لتنعقد اجتماعات في الدوحة، برعاية أميرها، تنتهي باتفاق قوى الموالاة والمعارضة اللبنانية على انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وإقرار قانون انتخابات تشريعية وتشكيل حكومة وحدة وطنية.
لم يكن اتفاق الدوحة، في 21 مايو/ايار ،2008 ممكناً لولا الضوء الأخضر السوري للمعارضة اللبنانية ومثله السعودي-الأمريكي للقوى الحكومية. وهو يعكس عودة سورية مضمرة إلى لبنان معترف بها إقليمياً ودولياً بعد أن لعب الرئيس الفرنسي ساركوزي دور مهندس فك العزلة عن سوريا وتطبيع علاقاتها بلبنان. ويبدو ان دمشق اقتنعت ان المرحلة الجديدة تختلف عما كانت عليه الأمور في العام 1976 عندما طالب الجميع بدخول قواتها إلى لبنان لوقف حمام الدم الأهلي، أو في العام 1991 عندما عقد الرئيس حافظ الأسد صفقة مع جيمس بيكر جددت وصايته على لبنان في مقابل اشتراكه في الائتلاف الدولي ضد العراق. ويبدو أن ضمانات قدمت للرئيس بشار الأسد بالاستحواذ على بعض النفوذ بديلاً عن الوصاية السابقة على لبنان مع عدم تحول هذا الأخير إلى قاعدة أمريكية أو “إسرائيلية” أو دخوله في صلح منفرد مع “إسرائيل”، وهذا ما يتفق عليه اللبنانيون وما أضحت توافق عليه القوى الدولية والإقليمية.
اتفاق الدوحة شرع أبواب فرنسا ثم أوروبا أمام دمشق في انتظار ما سيؤول إليه الحوار مع الإدارة الأمريكية حول شؤون المنطقة بكاملها ناهيك عن مصير التحالف مع إيران. ولا ننسى ان المفاوضات السورية-”الإسرائيلية” غير المباشرة التي ترعاها أنقرة لم تتأثر بالقصف “الإسرائيلي” لمواقع سورية قيل إنها نووية في سبتمبر/أيلول 2007 ولا بالحرب “الإسرائيلية” التدميرية على غزة في نهاية العام المنصرم. فالرئيس الأسد يدرك ان هذه المفاوضات تساهم كثيراً في تطبيع علاقاته مع الغرب وتدعيمها مع تركيا وفي إكسابه المزيد من الوقت لكسر الجدار الذي بني حول نظامه في الأعوام المنصرمة. كذلك يساهم في ذلك موقفه من الانتخابات التشريعية اللبنانية، التي جرت من دون التدخل السوري المعتاد، واعترافه بالنتائج المنبثقة عنها رغم أنها لم تأت في مصلحة حلفائه.
أكثر من ذلك فإن قوى الرابع عشر من آذار بدأت تعيش القناعة بضرورة تطبيع العلاقة مع دمشق لاسيما بعد المصالحة السورية-السعودية. وبات من المؤكد أن الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية سعد الحريري سوف يزور دمشق قريباً، مما يعيد خلط الأوراق اللبنانية ويفتح لمرحلة جديدة. وفي هذا الاتجاه يأتي انقلاب وليد جنبلاط الذي يخطو خطوة كبيرة في اتجاه دمشق على حساب تحالف 14 آذار.
رغم كل ذلك لا تزال عودة سوريا إلى لبنان والعالم تعاني من بعض الهشاشة. فالسفير الأمريكي الذي أعلن عن عودته إلى دمشق منذ حوالي الشهرين لم يعد بعد. وأكثر من ذلك فالرئيس أوباما في خطوة غامضة جدد العقوبات على سوريا بدل ان يلغيها. وزيارة الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز المقررة إلى دمشق لم تعد حديثاً راهناً. وتشكيل الحكومة اللبنانية يواجه العقبة تلو الأخرى رغم الإنجاز الهائل المتمثل بإجراء الانتخابات النيابية في يوم واحد ومن دون حادث أمني يذكر. والجميع ينتظر ما سوف تخرج به المحكمة الدولية من قرار اتهامي أو ظني في فترة قد لا تطول. ثم ان الحوار الأمريكي-الإيراني خفف من اندفاعاته بعد الأحداث الأخيرة في طهران. ويبدو أن أوباما يطمح إلى حل أزمات “الشرق الأوسط الكبير” كلها في خطة واحدة بدل العمل على فكها عقدة عقدة، ما يجعل احتمالات العودة إلى المربع الأول مرتفعة في حال فشل ورشة الحوار الكبرى التي باشرها بعيد وصوله إلى البيت الأبيض.
الخليج