ليس ركوداً معارضاً عابراً ..
بدر الدين شنن
يثير الركود السائد في المشهد السياسي من طرفي النظام والمعارضة ، يثير قلقاً مصحوباً بتساؤلات مشروعة لدى الشارع السياسي ، مثل ، لماذا وصلت الحالة السورية المعارضة إلى ما وصلت إليه من عجز حال دون تحقيق الاصلاح والتغيير ؟ . ماالذي عدا القمع عرقل ويعرقل سيرورة معارضة ناجحة ، رغم توفر عوامل موضوعية ، بما فيها القمع ذاته ، مساعدة إلى حد كبير ؟ . هل هناك حلول بديلة وأشكال تحالفات بديلة لما نشاهده يتحرك باسم هذا الشارع وباسم التغيير ؟ .. فهو ، أي الركود ، يعكس معطى ملتبساً ، وكأن المعارضة خسرت معركة الحرية مع النظام لحساب تكريس نظام ” الحزب القائد ” ، وأن مشروع التغيير الوطني الديمقراطي قد سقط ، أو جمد إلى أجل غير مسمى ، لحساب تقاطعات دولية وإقليمية اتفقت على على حذفه من التداول ك ” حامل للمتغيرات ” في المنطقة وتغطيتها وتسويقها . يعزز هذا القلق جملة من الظواهر والمعطيات برزت في الفترة الأخيرة لدى النظام والمحيط الدولي والوسط المعارض .
– من جهة النظام ماتزال الأخبار تأتي حاملة مامفاده ، أن سطوة النظام وقبضة أجهزة الأمنية والقضائية مستمرة في الردع والتصدي لأي حراك معارض ، بل ويستخدم بفعالية آليات ” قمقمة ” ( من قمقم ) الأجيال الجديدة ويتمتع بمقومات الاستقرار والاستدامة .. !! .
– ومن جهة القوى الدولية ، التي وجهت أشرعتها نحو رياح النظام ، فإن الأمر في الحالة السورية قد حسم بالنسبة لها لصالح ا ستدامة نظام الحزب الواحد ” القائد ” ، الأكثر ضمانة لانتشار وتطبيق ا ستراتيجياتها الشرق أو سطية ، بل وإلى مدى أقواس أبعد من ذلك .
– أما من جهة الداخل .. جهة القوى الشعبية ، فإن الأمر باعتباره لم يقارب همومها ومصالحها المباشرة الموجعة ، إن في مسئل الحريات العامة المرهقة أو مسائل المعيشة البائسة ، ولم تدع .. ولم يفسح لها في المجال للمشاركة في الصراع الجاري تحت عناوين الديمقراطية والتغيير ، فإن غالبيتها ، في أحسن الأحوال ، كانت في موقع المراقب الساخط ، وليس في موقع المشارك أو الفاعل . ولعل هذا الموقف إجمالاً ، قد خدم النظام أكثر مما خدم المعارضة ، سيما وأن العراق يقدم أنموذجاً منفراً لدور الخارج ، الذي كانت تعتمد عليه أو تبشر به بأشكال مختلفة ، قوى ورموز غير قليلة من المعارضة في تحقيق مشروع التغيير في سوريا .
من جهة المعارضة برزت مؤخراً ثلاث اتجاهات :
1 – الأخوان المسلمون ، في أجواء ” محرقة غزة ” و” الاستهداف ” الخارجي الخطير لمصالح الأمة والبلاد علقوا معارضتهم للنظام إلى أجل غير مسمى .. وغير مرتبط بشروط محددة .
2 – التجمع الوطني الديمقراطي طرح مشروع برنامج سياسي جديد للتجمع ، يتضمن التعاطي السياسي ” الموضوعي ” مع النظام في مناخات العملية السياسية المحلية والإقليمية والدولية .. تحت سقوف بينية .. بين المعارضة واللامعارضة .
3 – أحد أقطاب المعارضة الكبار ( تمنى .. !! .. على أمريكا أوباما ) ، أن تخفف الوطأة على النظام . لعل ذلك يسحب من التداول القمعي ذريعة الخطر الخارجي ، التي يستخدمها النظام في محاربة المعارضة ، ويفسح في المجال للمعارضة أن تتحرك في الداخل بحرية وصولاً الى التغيير في البلاد .
وعل ذلك تؤكد محصلة التجربة التاريخية السورية ، أن السؤال ليس هل خسرت المعارضة حقاً معركتها مع النظام .. أو سقط مشروع التغيير الوطني الديمقراطي .. وإنما هو هل كانت المعارضة مؤهلة سياسياً واجتماعياً وجماهيرياً لأداء دور معارض بالنوعية والآليات المطلوبة في مواجهة نظام يمتلك مايمتلك من مقومات القوة والشمولية .. أي معارضة مكافئة حقاً في توازنات الصراع مع هكذا نظام .. لديها امتدادات شعبية واسعة وتحالفات إقليمية ودولية نزيهة .. مكافئة على مستوى المهام التي ينبغي أن تتصدى لها .. لديها آليات متطورة في مقارعة القمع .. ومكافئة أيضاً وأيضاً في فهم طبيعة المرحلة الاجتماعية السياسية المحلية والعالمية ، التي تتحرك خلالها .. لديها خيارات تاريخية ناتجة عن رؤى فكرية مواكبة لاتجاهات المفاعيل الاجتماعية المعاصرة ، التي تعصف بالعالم من أمريكا اللاتينية إلى الشرق الأوسط . والأهم ، في مركب السؤال ، هل أن معظم أطرافها يتمتع بالتمثيل الاجتماعي السياسي الذي تزعمه ، وقادرة على على ا ستيعاب مختلف القوى والتيارات الشعبية من خلال الاستيعاب والتبني الصادق لهمومها ومصالحها وحقوقها ؟ ..
هذا السؤال ليس تعسفياً أو مبالغاً فيه . فعدا عن أن التكافؤ له أشكاله المتعددة التي يمكن اكتشافها وتوفرها من خلال البحث المبدع ، وباتت معروفة في مختلف معارك الحرية والديمقراطية في أمكنة عديدة ، فإن عاملين أساسيين يلعبان دوراً هاماً جداً في تشكيل هذا التكافؤ ، هما ، التجذر الاجتماعي الجماهيري للحراك المعارض وشمولية العدالة الاجتماعية لبرنامج وأهداف التغيير الوطني الديمقراطي ، قد تم تجاوزهما ، وا ستبدلا بالتحليق النخبوي وبديمقراطية مجردة من مضامينها الاجتماعية .
التعبير الحي لعدم وجود هذا التكافؤ وعدم الاهتمام بتوفيره نحو نصف قرن من المعارضة ، الذي يشكل الخطأ الأساس في الحراك المعارض ، هو أن المعارضة القائمة على النخب ذات التلاوين غير المتجانسة السياسية والثقافية والأيديولوجية والقومية والأقلوية ، اعتبرت نفسها ، في مغالطة واضحة ، أنها تمثل اللحظة التاريخية السياسية الراهنة ، تمثل الكتلة السياسية الأساسية المعبرة عن هذه اللحظة في البلاد . فبينما كانت الطبقات الشعبية تطرح نظرتها الوطنية والاجتماعية والمصلحية المشروعة بوسائلها الخاصة المعبرة ، كانت هناك رموز وقوى غير قليلة في المعارضة ، ومنها ذات ماض ا شتراكي ، بعيدة عن هذه النظرة ، بل وتضبط أمنياتها على إقاعات الحرب المدمرة الدائرة في المنطقة ، أملاً في أت تنتقل المتغيرات المخططة والجارية في بغداد إلى دمشق .
وهذا يعني أن هكذا معارضة .. تتقاسم مع أهل النظام الإنتماء الاجتماعي المشترك ، وتتشارك معهم في الخيارات الاجتماعية والاقتصادية القائمة على الاستغلال والتمايزات الطبقية ، وتتهافت معهم عل الاندماج في نظام العولمة الرأسمالية ، لايمكن أن تكون في حالة خصومة جذرية دائمة مع النظام ، وبالتالي لايمكن أن تكتسب مؤهلات المعارضة الحاملة لمهام التغيير حتى الخواتم الحاسمة .. أي تقديم نظام بديل لما هو قائم .
لذا لايمكن تقديم أي جواب على سؤال الركود إياه وفق طرائق وقوالب تحصر السياسة ضمن قواعد لعبة بين قوى وفرقاء هي رغم تنابذ مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أحياناً أو لأزمنة فد تبدو مفتوحة على أزمات شبه مستعصية على الحل ، لكنها جميعاً حريصة على ألاّ ينهار نظامها العام المشترك ، وبالتالي حريصة على ألاّ تتمكن الطبقات الشعبية من بناء نظامها البديل المغاير .
بل لابد من مقاربة أكثر جذرية لحالة الركود المعارض السائدة وكذلك لأسباب المآلات التي وصلت إليها .. والتي تحكمت بالحراك المعارض .. بناء .. وحركة .. ومضموناً .. مقاربة تعيد الاعتبار للديمقراطية وللحراك المعارض والتغيير الوطني الديمقراطي .. وذلك على المساحات الشعبية الواسعة .. وبمضامين اجتماعية عادلة .. وبآفاق وخيارات مسقبلية تحددها الحاجات الاجتماعية التي تفرزها وقائع الحياة .. وتقررها الإرادات الشعبية التي تمثل غالبية الشعب .
ولابد أيضاً ، قبل وبعد ذلك ، من التأكيد بإيجاز ، على أن ، إذا كنا نعيش اليوم ركوداً في الحراك الديمقراطي ، فليس مرد ذلك يعود إلى إلى أن الديمقراطية قد صارت غير قادرة على التطور والإلهام لإيجاد الحلول المطابقة في الخيارات والبناء الذاتي والتحالفات . بل على العكس ، إن ذلك يعود إلى أنه لم يجر التعلم كيف تستخدم الديمقراطية ا ستخداماً يلبي تطور الحاجات الاجتماعية والسياسية والعلاقات الإنسانية الحضارية العادلة ، وإلى أنه قد تم توظيفها تعسفاً في خدمة النخب المتصارعة على السلطة وخدمة مشاريع العولمة المتأمركة ، وإلى ممارسات الأنشطة الفكرية المفخخة التي كان همها كيف تجر بلادنا وحركاتنا الفكرية والثقافية إلى مدارت العولمة تحت قيادة المحافظين الأميركيين الجدد ، دون أي اكتراث بالجذور الاجتماعية والسياسية والثقافية لمكونات شعبنا واستحقاقات حل أزماتها وعقدها وقيودها الموروثة .
مايمكن أن يفسره الركود المريب ، هو أنه ليس فشلاً لعولمة وأمركة الشرق الأوسط وحسب ، وليس عجزاً أمام حل معادلة القمع مع الاستبداد وحسب ، وإنما هو عقاب على الخيار الاجتماعي السياسي الاستراتيجي الخطأ .. وا ستخدام الآليات الخطأ ..
وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد ، أن الخيار الاجتماعي السياسي الخطأ قد أدى إلى الخيار التحالفي البراغماتي الخطأ . وهذا الشكل من التحالف قد أسهم بدور سيء في الوصول إلى الركود المشهود الآن . ما يستدعي إضاءة الجانب التحالفي الذي نشأ تحت تأثير الخيارات الاجتماعية السياسية .. وتحت تأثير المناخات التحالفية التي أشاعتها ” الجبهة الوطنية التقدمية ” ، أملاً في التوصل إلى حيثيات الحاجة إلى تحالفات معارضة من نوع آخر .. تعبر بصدق عن تمثيلها الخيارات الاجتماعية السياسية الصح .. وتستخدم الآليات الجماهيرية الصح .. تحالفات عصية على الركود مثلما هي عصية على الفشل .. وذلك بارتباطها الوثيق بالشعب وليس بالنخب وحسب .. وبارتباطها بالتطور الاجتماعي السياسي وقوانينه وليس باقتناص فرص تدميرية مغامرة داخلية أو خارجية .
الحوار المتمدن