صفحات سورية

سورية و’الطاعون’

null
د. عبدالوهاب الأفندي
(1) لم يكن مستغرباً أن توقف حكومة بنيامين نتنياهو المفاوضات غير المباشرة مع سورية، وتطالب بدلاً منها بمفاوضات مباشرة. فالمعروف أن المفاوضات المباشرة بين سورية وإسرائيل قد أوقفت بعد أن تراجعت حكومة نتنياهو السابقة عن تعهدات زعمت سورية إن حكومة رابين قد أعطتها حول قبول الانسحاب من الجولان. ومنذ ذلك الوقت فإن كل حكومة إسرائيلية جاءت إلى السلطة كانت أكثر تشدداً من سابقتها.
(2)
سورية حققت على ما يبدو عدة نقاط ضد خصومها الإسرائيليين، خاصة عندما أجبرت إسرائيل على الانسحاب من لبنان تحت مطارق حزب الله المدعوم سورياً. ولكن إسرائيل حققت بالمقابل نصراً حين فرض على سورية الانسحاب من لبنان وهي تجرجر أذيال الخيبة بعد مقتل رفيق الحريري في عام 2005، فكانت تلك واحدة بواحدة.
(3)
فيما يبدو أنه قلب للأمور، تريد إسرائيل تجريد سورية من أوراق الضغط القليلة الموجودة بيدها حين تطالبها بالتخلي عن حزب الله وحماس وإيران، دون تعهد بمقابل، مثل الانسحاب من الجولان. وبالتالي فإن سورية لن تستطيع حتى إنجاز اتفاق على نهج كامب دايفيد ووادي عربة تتعهد فيه برفع الراية البيضاء وعدم تكدير صفو إسرائيل بصورة مباشرة أو غير مباشرة مقابل استرداد الجولان. فإسرائيل تريد من سورية أن تبصم على طريقة أوسلو بالتخلي عن كل ‘كفاح مسلح’ مقابل رضا إسرائيل لا غير. وكما قال نتنياهو من قبل، فإن عرضه لا يوجد فيه الأرض مقابل السلام، بل مجرد سلام مقابل سلام، أي استسلام غير مشروط.
(4)
إسرائيل نتنياهو تستطيع التصرف بهذه الثقة لأن العرب (والسوريين من بينهم) قد أعلنوا بالفعل خلو أيديهم من أي ورقة ضغط يمكن عبرها إجبار إسرائيل حتى على مجرد التفاوض. فالعرب أعلنوا أنهم لن يحاربوا، ولن يستخدموا سلاح النفط، بل حتى ولا سلاح المقاطعة. فلماذا تصدع أي حكومة إسرائيلية رأسها بتقديم تنازلات لا حاجة لها؟ لقد حصلت إسرائيل على السلام فعلاً بدون إعطاء العرب أي شيء.
(5)
الدول العربية لا تستطيع ان تحارب إسرائيل لأنها مشغولة سلفاً بحروب أخرى. فهناك حرب يخوضها كل نظام ضد شعبه، وهناك حروب تخوضها الأنظمة ضد بعضها البعض، أصالة أو بالوكالة عن آخرين.
(6)
النظام السوري تفوق على كل أقرانه في الهمة في محاربة شعبه حتى أخجلهم. فمجرد قيام بضعة مواطنين (والأصح أن يقال رعايا، لأنه لا توجد مواطنة في سورية) بعقد لقاء في شقة أحدهم لمناقشة شأن عام يشكل جريمة يعاقب عليها بالسجن. وقد سمعنا قبل بضع سنوات أن شباباً يافعين بلغوا بالكاد العشرين حكم عليهم بفترات سجن بلغت سبع سنوات لأنهم أنشأوا جمعية لنظافة الشوارع بغير إذن رسمي! هذا لم يكن يحدث حتى في أيام الاستعمار، ولا يحدث في الأراضي المحتلة. فهنيئاً للإخوة بهذا النصر المبين، والإنجاز الذي عجزت عن مثله الامبراطورية الفرنسية ووريثتها الإسرائيلية.
(7)
افتقاد الشرعية الديمقراطية ظل باستمرار كعب أخيل الأنظمة العربية في تعاملها مع إسرائيل، مما يسهل الضغط عليها. إسرائيل تحتج لدى أمريكا وغيرها بأنها لا تستطيع تفكيك المستوطنات خوفاً من سقوط الحكومة، أما العرب فليست لديهم حجة مماثلة. وقد ذكر أحد شهود مفاوضات كامب دايفيد أنه حينما كانت تستعصي الأمور في التحاور مع الجانب الإسرائيلي كان الوسيط الأمريكي يلجأ لأعضاء الوفد المتنفذين للضغط على مناحيم بيغين، أما في الجانب المصري فكان اللجوء إلى السادات الذي يفرض التنازلات على فريقه.
(8)
بالنسبة لإسرائيل فإن التحدي ظل هو الحصول على اعتراف الأنظمة العربية بحقها في الاحتفاظ بما نهبت، خاصة عبر التعامل المباشر مع الحكومات باعتباره أبرز مظاهر الاعتراف و’تطبيع’ غير الطبيعي. ولهذا فإن نائب وزير الخارجية الإسرائيلي منح سورية خياراً أوحد: تفاوضوا معنا مباشرة ولا تعاملونا كأننا طاعون. وافعلوا ذلك صاغرين بغير قيد لأن خياراتكم محدودة وأنتم تحتاجوننا أكثر مما نحتاجكم.
(9)
هذا التشدد الإسرائيلي ظل يعطي ثماره، فالعرب عقدوا الاتفاقات غالباً مع أكثر الأنظمة الإسرائيلية تشدداً وعنصرية. ويمكن ببساطة أن يقال ان العرب مسؤولون وحدهم عن تدمير خط الاعتدال النسبي في إسرائيل لأنهم لا يصمدون ما يكفي لإعطاء مبررات للمعتدلين لإقناع الرأي العام الإسرائيلي بضرورة التنازل، بل طفقوا يتسابقون و’يهرولون’ في تقديم التنازلات بما يخجل معتدلي إسرائيل ويسحب أوراقهم.
(10)
إن ‘المعتدلين’ في إسرائيل (إن صح التعبير) يحتاجون إلى ‘شركاء’ لهم حد أدنى من الصلابة، وليس إلى شركاء ترتعد فرائصهم. فلولا مطارق حزب الله لما استطاع باراك تسويق الانسحاب غير المشروط من لبنان لمواطنيه، ولولا ضربات حماس لما كان كبير الصقور شارون هو مهندس الانسحاب أحادي الجانب من غزة. ولكن لنكن منصفين، لماذا يتنازل نتنياهو عن شبر من الجولان لدولة لا تستطيع حتى حماية منشآتها العسكرية من هجمات إسرائيل بتصريحات نارية، ناهيك عن الدفاع بالسلاح؟
(11)
النظام السوري وأضرابه العرب هم ممن قال عنهم الشاعر إنهم لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل. اللهم إلا إذا كان المظلوم مدنياً سورياً أعزل يجتمع مع إخوانه في شقة دمشقية لمناقشة هموم وطن عجز عن استعادة أرضه المسلوبة. وعليه فإن مطالب إسرائيل بالمفاوضات المباشرة هي مطالب متواضعة، بل يجب أن تطالب الأنظمة العربية بدفع الجزية وإرسال الخراج إلى تل القدس المحتلة، وهو ما بدأ يفعله بعضهم سلفاً تحت أكثر من ستار.
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى