«الإسلام السياسي»: أهي مرحلة الأفول؟
د. وحيد عبدالمجيد
مازالت الحركات الإسلامية الأصولية تحظى بمساحة كبيرة من الاهتمام الإعلامي والأكاديمي والسياسي في بلادنا العربية، كما في غير قليل من الدول الغربية. حضورها ظاهر في الكتب والدراسات والتقارير التي تصدر عنها، كما في تغطية أخبارها ونشاطاتها في وسائل إعلام مختلفة.
ويظهر هذا «المزاج» الجديد في كتابات وتغطيات إعلامية وحوارات في وسائل إعلام ومراكز أبحاث عربية وغربية على حد سواء. مجلة «الايكونومست» البريطانية بشَّرت في عددها قبل الأخير بتراجع «الإسلام السياسي» في مصر. ولكنها قصدت الحركات الأكثر تطرفا، فيما رأت أن دور المعتدلين ازداد. وهي خلطت، بذلك، بين «الإسلام السياسي» الذي يشير إلى من يُطلق عليهم معتدلون، و«الإسلام السلفي الجهادي» الذي يعتبر مرجعية المتطرفين.
غير أنه، وبعيدا عن هذا الخلط، يبدو الاعتقاد في تراجع الحركات الإسلامية في مجملها آخذا في الانتشار. وقد زادت نتائج الانتخابات النيابية، التي أٌُجريت أخيرا في لبنان والكويت بصفة خاصة، الاقتناع بذلك. وزودت أصحاب هذا الرأي بما يعتبرونه حجة واقعية، فقد تراجع الإسلاميون في الانتخابات الكويتية، وعجز حزب الله وحلفاؤه عن انتزاع الأغلبية في الانتخابات اللبنانية، ويتوقع أصحاب هذا الرأي تراجع الإسلاميين في بلاد أخرى في الفترة القادمة.
ولكن هذا التوقع يبدو متعجلا، لأنه يقوم على قراءة مختلف عليها لواقع الحركات الإسلامية، فهذه القراءة التي تجزم بتراجع الإسلاميين، أو حتى ترجّح ذلك، تحتاج إلى مراجعة لأن الدليل التجريبي الرئيسي الذي تعتمد عليه هو بطابعه متغير، فنتائج الانتخابات، أي انتخابات، تعطي مؤشرا يتعلق بالمدى القصير أو المتوسط على الأكثر، كما أن هذا المؤشر يصعب الاعتماد عليه في معظم بلادنا العربية لصعوبة الاطمئنان إلى أن نتائج الانتخابات فيها تعبر عن الاختيار الشعبي، فالانتخابات في لبنان والكويت تعتبر استثناء بشكل ما في هذا السياق، ولذلك يمكن اعتبار نتائجهما مؤشرا ذا دلالة، بخلاف الحال مثلا في الانتخابات التونسية التي ستُجرى بعد شهور.
فليس ممكنا بناء سيناريوات لمستقبل الحركات الإسلامية أو غيرها بناء على نتائج الانتخابات في العالم العربي، وحتى إذا كانت هذه الانتخابات أفضل حالا، فهي لا تكفي لتقدير وزن ظاهرة هي في جوهرها أقرب إلى حركة اجتماعية قاعدية منها إلى تيار سياسي.
فقد تغلغلت الحركات الإسلامية الأصولية المعتدلة في المجتمعات العربية اعتمادا على عمل اجتماعي قاعدي grassroats في المقام الأول، ولم يكن عملها السياسي إلا رأس جبل الجليد الظاهر، أما الجبل نفسه فقد يكون عبر تراكم العمل الاجتماعي، الخدماتي، الدعوي في المجتمع، وخصوصا في أوساط شرائح الدنيا والوسطى.
وهذه «بضاعة» لا يمكن أن تكسد في البلاد التي تعجز الدولة فيها عن تقديم المقدار الضروري من الرعاية الاجتماعية، أو لا تضع ذلك ضمن أولوياتها، إما لخطأ في سياسة حكومتها، وإما لأن هذه السياسة منحازة إلى فئات اجتماعية أعلى.
ولذلك فعندما يؤكد بعض المبشرين بتراجع الحركات الإسلامية أو أفولها، يبدو هذا التقدير أقرب إلى التفكير الرغبوي wishful thinking منه إلى قراءة دقيقة للواقع. فكساد بضاعة ما، أي تراجع الطلب عليها، يحدث حين يجتذب غيرها هذا الطلب، ولكي يحدث مثل ذلك في البلاد العربية التي يرتفع فيها معدل الفقر والتهميش، ينبغي أن تتبنى حكوماتها سياسة اجتماعية أكثر انحيازا إلى الفئات الأضعف.
وبالرغم من أن الحركات الإسلامية المعتدلة تستمد نفوذها من دورها المجتمعي، فالأرجح أن شيئا من الإصلاح السياسي يمكن أن يحد من هذا النفوذ، فبعض هذه الحركات يكتسب تعاطفا من جراء الحصار السياسي المفروض عليها، والملاحقة التي يتعرض لها بعض أعضائها، فتبدو كما لو أنها مضطهدة، وهذا فضلا عن أن وضعها تحت ضغط أمني مستمر يساعدها على التماسك ويكتم الخلافات في داخلها، إذ يصبح الانغماس في أي خلاف في مثل هذا الظرف نوعا من الترف، ولذلك يصعب تصور أن يحدث في جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر مثلا انشقاق كبير من النوع الذي ضرب حركة مجتمع السلم (حمس) الجزائرية منذ مؤتمرها العام الرابع في العام الماضي، وبلغ ذروة جديدة في الأسابيع الأخيرة.
فقد وفر انفتاح نظام الحكم على هذه الحركة، التي تمثل امتدادا لتيار «الإخوان المسلمين»، أجواء طبيعية عملت فيها منذ تأسيسها في العام 1991. وفي هذه الأجواء، تنامى الجانب السياسي في نشاطها فلم تعد حركة دعوية- اجتماعية بالأساس. وأصبح لها برنامج سياسي بدا أكثر عصرية بعد تعديله عندما غيرت اسمها من «حركة المجتمع الإسلامي» إلى «حركة مجتمع السلم» في العام 1998.
ولأن الخلاف بين الناس هو من طبائع الأمور، فلا يمكن أن تخلو جماعة «طبيعية» من تباينات في داخلها، وهذا هو ما يحدث في كثير من الأحزاب والحركات السياسية، وفي بعضها تتفاقم الخلافات كما حدث في حركة «حمس» أخيراً.
ولذلك فليس مستحيلاً أن يتراجع «الإسلام السياسي»، ولكن هذا مرهون بتغيير الظروف الاجتماعية – السياسية التي أدت إلى انتشاره، وخصوصاً إذا أدت سياسة أوباما تجاه العالم الإسلامي إلى مصالحة حقيقية.
فإلى جانب العوامل الداخلية التي تغذى «الإسلام السياسي» عليها، ساهم الغضب من السياسة الأميركية في دعم نفوذ حركات إسلامية نجحت في استثمار هذا الغضب الذي بلغ أوجه في عهد الإدارتين السابقتين.
وقد بدأ أوباما في تحسين صورة أميركا عبر خطابه التصالحي، ولكن الخطاب لا يكفي ما لم يقترن بتغيير ملموس في اتجاهات السياسة الأميركية تجاه قضية فلسطين بصفة خاصة. صحيح أن العالم الإسلامي أنصت إلى خطاب أوباما من القاهرة في 4 يونيو الماضي، ولم يلتفت إلى شريط أسامة بن لادن الصوتي الذي تم بثه في الوقت نفسه تقريبا.
ولكن هذا ليس دليلاً حتى الآن على تراجع الإسلاميين، بخلاف ما ذهب إليه توماس فريدمان في «نيويورك تايمز» قبل حوالي أسبوعين، وإنما هو مؤشر إلى إمكان أن يؤدي تغيير حقيقي في السياسة الأميركية، حين يحدث، إلى مثل هذا التراجع.
كاتب من مصر