عن وسطية هاشمي رفسنجاني
محمد سيد رصاص
يتحدد موقع الوسط السياسي من خلال الصراع بين اتجاهين مختلفين بشكل جذري، ويبرز الموقع الوسطي عندما يصل الطرفان الآخران إلى حالة عدم القدرة على حسم الصراع بينهما ليكون”الوسط” إما بيضة القبان لأحدهما، أو ليصبح هو المنتصر عبر ملء فراغ القوة الحاصل، وخاصة عندما يستطيع بعد امساكه بزمام الأمور تنفيذ برنامج واحد منهما، أوجزء منه، أوخليط من برنامجهما، ليكون ذلك مفتاحاً لاستقراره في السلطة، عبرتأمين قاعدة اجتماعية قوية، بدلاً من امساكه الأولي بالسلطة الذي كان تعبيراً عن عجز الطرفين عن الوصول إليها.
رأينا هذه الحالة في”سلطة 9 ترميدور” في فرنسا والتي امتدت بين 27 تموز 1794 و9 تشرين ثاني 1799، وأعقبت صراع الجيرونديين بقيادة دانتون مع اليعاقبة بزعامة روبسبيير، وكان اعدام الاول من جانب الاخير في نيسان 1794 ثم اعدام الثاني من جانب الترميدوريين بعد ثلاثة أشهر تعبيراً عن عجزهما عن الحكم والسيطرة في فترة اضطراب ما بعد قيام الثورة الفرنسية. لتأتي سلطة جماعية من عسكريين ومدنيين وتقوم بتنفيذ خليط مزج بين اصلاحات راديكالية، نادى بها اليعاقبة في القضايا الاقتصادية- الاجتماعية مع تشدد في محاربة الحكومات الملكية الأوروبية التي حاولت جيوشها القضاء على سلطة الثورة الفرنسية، وبين اتجاهات البورجوازية الفرنسية الصاعدة التي مثلها الجيرونديون، والنازعة نحو الاستقرار وانهاء فوضى مابعد الثورة وتقويض سلطة “العامة” في الشارع.
كان انتهاء “سلطة 9 ترميدور” بين يدي شخص واحد، هو نابليون بونابرت، لايعدو مجرد تركيز للسلطة عند فرد واحد مع الحفاظ على البرنامج.
حصل هذا السيناريو الفرنسي في سلطة ثورة 1917 البلشفية، وبتشابه مدهش مع ما جرى في باريس مابعد ثورة 1789. كان ستالين لا يكاد يُرى، رغم كونه أميناً عاماً للحزب منذ نيسان 1922 أثناء مرض لينين وحتى وفاة الأخير في الشهر الأول من 1924، أمام صراع القامات الفكرية – السياسية الكبرى في الحزب البلشفي حول الموضوع الرئيسي في روسيا العشرينات. وهو موضوع الموقف من الفلاحين، حيث كان تروتسكي يدعو للتشدد ضدهم عبر “التجميع الزراعي- الكلخزة” والتصنيع، فيما كان بوخارين من أنصار سياسة مرنة تجاه الفلاحين بشرائحهم الغنية والمتوسطة والفقيرة. في فترة الصراع على خلافة لينين اجتمع ستالين وبوخارين، مع من كان على خصومة شخصية لابرنامجية مع تروتسكي مثل كامينييف وزينوفييف، من أجل منع تروتسكي من أن يخلف لينين، وعبر اقتناع عندهما، مثلهما مثل بوخارين، بأنهم يمكن أن يحكموا من وراء ستالين. عندما انفجر الصراع البرنامجي، بين عامي 1925 -1927، بين “المعارضة اليسارية”، التي ضمت تروتسكي وكامينييف وزينوفييف، ضد بوخارين “اليميني” كان ستالين في الوسط قبل أن يرتمي في حضن بوخارين مبعداً الثلاثة. ثم يقوم عام 1929 بإبعاد بوخارين بالترافق مع تنفيذ برنامج الثلاثة في التجميع الزراعي والتصنيع، وسط اتهامات تروتسكي المنفي لستالين ب”البونابرتية”.
في مصر كان أنور السادات في موقع ستالين 1922 – 1924 لما انتخب خليفة لعبد الناصر بدلاً من علي صبري المطالب بتعزيز التحالف مع موسكو وبحسم موضوع “إزالة آثار 5 حزيران” عبر الحرب ومن زكريا محيي الدين الذي أبعد من قبل عبد الناصر عام 1968 لكونه كان ينادي ببوابة واشنطن كطريق إلى ذلك وبالتخلي عن السوفيات: لم يمنع ابعاد علي صبري وكتلته في أيار 1971 من السير عبر طريق قاد الى حرب أوكتوبر 1973، ولو كان بينهما طرد الخبراء السوفيات في تموز 1972. ثم لما تمت الحرب كان طي الرئيس السادات صفحة العلاقات المصرية – السوفياتية، والإتجاه نحو واشنطن والتسوية والإنفتاح الاقتصادي.
الحالة الايرانية
إذا أردنا أن نعكس الحالات السابقة على ايران، وسط الحديث منذ أزمة انتخابات 12 حزيران 2009 عن موقع هاشمي رفسنجاني “الوسطي”، نجد التالي: كان الصراع الأساسي حول الإتجاهات في ايران الخميني قد بدأ في 1986 لما قام رئيس البرلمان رفسنجاني، بالتحالف مع رئيس الوزراء مير حسين موسوي وبرضى الخميني وربما رئيس الجمهورية علي خامنئي، بعقد صفقة “ايران غيت” مع واشنطن وتل أبيب لتزويد الجيش الايراني أسلحة أميركية الصنع عبر اسرائيل. عارض الصفقة “خليفة المرشد” آية الله حسين منتظري، وقام عبر صهره مهدي هاشمي بفضحها في مجلة “الشراع”، ليتم اعدام الأخير ثم ابعاد منتظري من قبل الخميني. تحالف رفسنجاني مع خامنئي، عقب وفاة الخميني في 4 حزيران 1989، مبعدَيْن موسوي عبر الغاء منصب رئاسة الوزراء وليقوما بتوزيع المناصب بين رفسنجاني، الذي أصبح رئيساً للجمهورية،و خامنئي الذي أصبح مرشداً. في تلك الفترة كان نفوذ رفسنجاني واضحاً عبر تطبيع العلاقات مع الغرب (حل مشكلة الرهائن الغربيين – سياسة ايرانية غير ممانعة لحرب 1991 الأميركية على العراق… إلخ)، ثم عبر سياسة تخفيف قبضة الدولة على الإقتصاد.
لم تتجاوب واشنطن مع الانفتاح الايراني لتتجه في عهد كلينتون نحو سياسة “الإحتواء المزدوج” لبغداد وطهران. أدى هذا اللاتجاوب الأميركي إلى فرز المشهد السياسي الايراني بين اتجاهين: اصلاحي (أراد الإنفتاح على الغرب والداخل) مثّله محمد خاتمي الفائز في انتخابات رئاسة جمهورية 1997 وآخر محافظ أصبح رمزه بالتدريج المرشد خامنئي. أصبح موقع الوسط الذي اتخذه رفسنجاني، نتيجة صراع هذين الاتجاهين، هشاً، وقد بانت هذه الهشاشة لما كان ترتيبه الأخير في انتخابات برلمان 2000 عن مدينة طهران. رغم هذا، فقد بانت ركائز رفسنجاني غير منتهية لما تولى منصب رئيس “مجمع تشخيص مصلحة النظام” في عام 2002، الفاصل زمنياً بين تعاون طهران مع واشنطن في كابول 2001 وبغداد 2003. وهو أمر كان واضحاً لما انتخب عام 2007 رئيساً ل”مجلس الخبراء” بعد عامين من هزيمته الكبرى في انتخابات الرئاسة التي فاز فيها محمود أحمدي نجاد.
خلال شهري ما بعد 12 حزيران 2009 حاول رفسنجاني (وكذلك لاريجاني ولو بشكل أقل) أن يكون في موقع الوسط بين نجاد وموسوي، الحاملين لبرنامجين مختلفين جذرياً في السياستين الخارجية والداخلية، من دون معالم واضحة للقدرة على أن يكون بديلاً منهما او من أحدهما، حتى ولو ظهرت بوادر لهزيمة التيار الإصلاحي في مواجهات حزيران وتموز الفائتين، مع عدم القدرة أيضاً على أن يكون قادراً على التوفيق بينهما (أوعلى حل توفيقي) بعدما وصل الصراع إلى نقطة اللاعودة.
هذا الوضع الايراني الخاص قاد إلى أن يكون الوسط ضائعاً وغير قوي، وهو ما يفسر محاولة المحافظين حشر الوسطي رفسنجاني في خانة موسوي إثر انتفاء حاجة المحافظين لرفسنجاني من أجل حسم الصراع مع موسوي، فيماكانت حاجة الإصلاحيين بقيادة موسوي لدعم رفسنجاني قائمة في لحظة ضعفهم في تموز (ولم يكن الوضع كذلك في أسبوع مابعد الإنتخابات)، وهو ما لم يعطه المتردد رفسنجاني: الأرجح أن يؤدي الوضع الراهن الايراني إلى عدم تعويم الوسط، بل إلى أن يكون المنتصر منفذاً لبرنامجه مع شيء (بهذا الحجم أوذاك حسب التوازنات المقبلة داخلياً وخارجياً) من برنامج الطرف الآخر، وهو المرجح عند المحافظين الذين يمكن أن ينفذوا بعض بنود برنامج موسوي في السياستين الخارجية والداخلية، ولوعبر نكهتهم الخاصة.