ستالينيات إيرانية
بقلم نزار آغري
كانت السلطات الشيوعية تعطي لنفسها حقاً تحرمه على غيرها. كان لها الحق في أن تمارس الدعاية الثورية “داخل صفوف الأعداء” بينما يمنع على هؤلاء الأعداء القيام بشيء كهذا داخل صفوفها. وفي الداخل كانت تمنع المتأثرين بالأفكار البورجوازية من تشكيل الأحزاب أو دخول البرلمان أو تسلم مهمات رسمية. كان يمكن ممثلي “البروليتاريا” المزعومين وحدهم التمتع بكل شيء. وكان على الرؤساء والوزراء وغيرهم من المسؤولين التمتع بالخصال البروليتارية فإن ضعف أحدهم أو أظهر تردداً وتسامحاً وليناً اعتبر “بورجوازياً صغيرًا”، وتلك، والعياذ بالله، من أرذل الصفات في القاموس الشيوعي.
بالنسبة للإتحاد السوفياتي ومنظومته الإشتراكية كان العالم كله عبارة عن ساحة من المؤامرات التي تحيكها الرأسمالية العالمية. السينما والتلفزيون والمسرح والنشاطات الثقافية والتيارات الفكرية والشعر الحر والأدب غير الملتزم والرسم السوريالي وموديلات الأزياء وسوى ذلك، عبارة عن مؤامرات تهدف إلى غسل دماغ البشر وتشويه فكرهم من أجل منعهم من تشرّب النظرية الشيوعية. ومن أجل هذا كانت ثمة صرخة دائمة تنادي بضرورة التصدي لأي غزو فكري غربي وتحطيم كل نشاط معاد سواء أكان سياسة أم أدباً أم فناً أم رياضة أم سوى ذلك. كان ينبغي الوقوف في وجه “المراسلين والصحافيين والكتاب والباحثين والسياح ممن يأتون الى البلد وأخذ الحيطة والحذر منهم لئلا يقوموا بنشر الأفكار الهدامة.
وفي المقابل كان أمراً طبيعياً و”بديهياً” أن يكون للاتحاد السوفياتي ومنظومته الحق في ممارسة الدعاية الشيوعية والترويج لإيديولوجيتها وللسلوك الذي تتبعه هذه المنظومة في السياسة والثقافة والإعلام، ليس في بلدان العالم الثالث فقط بل في قلب البلدان الرأسمالية. كان ثمة مراكز ثقافية ومكتبات توزع كراسات لينين وستالين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ وفيديل كاسترو والبقية الباقية من الزعامات الشيوعية فضلاً عن كراسات الحزب الشيوعي. وكانت الصحف والمجلات الشيوعية تنتشر وتوزع دون عائق. وداخل البلدان الرأسمالية، في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، كانت هناك، ولا تزال، أحزاب وتيارات ماركسية بكل تلويناتها اللينينية والستالينية والتروتسكية والغيفارية والكاستروية والكاستورياديسية وسواها، ولها أنصارها ونشراتها وبياناتها ومجلاتها. كان كل ذلك يجري علانية من دون رقابة أو ملاحقة أو تخويف، دع عنك الإعتقال أو التعذيب. كان الشيوعيون يعتبرون هذا عملاً ثورياً ونبيلاً. أما أن يتم العثور على أدنى أثر يشير إلى مرجع غربي فكان يصنف فوراً نشاطاً تخريبياً دنيئاً يهدف إلى التآمر على الثورة. وكل من يتم الإمساك به بالجرم المشهود، جرم التأثر بالغرب وأفكاره، يحاكم بتهمة العمالة والتجسس لمصلحة الخارج.
هذا بالضبط ما يجري الآن في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. فهي تروج لإيديولوجيتها وتمارس الدعاية الواسعة لسياستها وثقافتها وفنها وتنشر كل ما يجمّل سلوكها ويبرر أفعالها. ومن أجل ذلك تنشأ الإذاعات الموجهة للخارج وتقيم القنوات الفضائية وتطبع الكتب وتصدر الصحف والمجلات والنشرات والبيانات بمختلف اللغات وفي جميع أرجاء العالم. والقنوات التلفزيونية مثل “العالم” ( بالعربية) و”برس” (بالإنكليزية) و”سحر” (بالتركية والكردية والصربية والبوسنية) تبث على مدار الساعة دعاية عدائية للآخرين، الذين لا يتفقون مع توجهات إيران، تبلغ حدود الشتم واللعن والتشنيع. وهناك مراسلون لهذه القنوات في بلدان العالم كله، بما في ذلك إسرائيل ( في حرب غزة اعتقل مراسل قناة “العالم” وحكم عليه بالسجن شهرين. لم تكن التهمة أنه جاسوس لإيران بل لأنه خالف القوانين المرعية في دولة إسرائيل). أكثر من هذا فإن ناشطين غربيين وعرباً وباكستانيين وهنوداً يعملون في القنوات التلفزيونية الإيرانية دون أن تحاكمهم بلدانهم بتهمة العمالة لإيران (يعمل البرلماني البريطاني جورج غالوي والناشط الإسلامي السويسري، المصري الأصل، طارق رمضان في قناة “برس تي في”).
والمحاكمات التي تجريها السلطات الإيرانية للإصلاحيين وأنصارهم ممن شاركوا في التظاهرات تجلب إلى الأذهان محاكمات موسكو الشهيرة التي بدأت في شهر آب، يا للصدفة، عام 1936 وانتهت في آذارعام 1938. إنها، مثلها، إستعراضات مثيرة للضحك لولا أنها تسبب للمحكومين المهانة والعذاب والتشويه النفسي والأذى الجسدي. في موسكو وقف العالم مذهولاً وهو يرى القادة الكبار من رفاق لينين وأنصاره يساقون إلى محاكمات غريبة بتهمة التآمر على الثورة. رأى الناس بوخارين وكامينييف وزينوفييف وراديك وبياتاكوف وعشرات غيرهم من المحكومين وهم يقفون ليقولوا انهم حرّضوا ضد الثورة وكانوا عملاء للغرب ومعادين للقائد المرشد ستالين وتجسسوا للخارج وتلقوا منه الدعم والمساعدة.
هذه هي بالضبط التهم الموجهة للمحكومين في إيران: التجسس والعمالة والتحريض على حكم المرشد وولاية الفقيه. في موسكو انتهى الأمر بالمحكومين بالإعدام رمياً بالرصاص. كانت تلك مأساة نادرة لم تعرف البشرية مثيلاً لها. والمأساة التاريخية، كما قال ماركس تتكرر مرتين. غير أنها في المرة الثانية تصبح مهزلة.
أليست مهزلة أن تحاكم موظفة إعلامية في السفارة الفرنسية بتهمة التجسس لأنها أرسلت تقريراً صحافياً عن التظاهرات التي جرت في طهران إلى باريس؟ ماذا كان يفعل مراسل قناة “العالم” أثناء حرب غزة؟ كان بالطيع يرسل تقارير عن الأحداث إلى طهران.
“قد أكون مصاباً بالبارانويا إلى حد ما ولكن هذا لايعني أنك لست جاسوساً للغرب. أنت تعرف أنك لست كذلك وليست لديك الرغبة في أن تكون كذلك غير أن هذا لا يغير شيئاً في الموضوع. أنت غريب بيننا وهذا كاف. الأشياء الغريبة التي تحدث من حولنا هي البرهان. لقد سبق أن عبرت عن إعجابك بالغرب. إنك، مثل كل الناس، لست على علم بالشيطان الذي يقبع في داخلك. لقد فقدت الحق في أن تكون بريئاً”.
هذا الكلام يوجهه “يشيل”، المتعصب دينياً، إلى “كا”، في رواية “ثلج” للروائي التركي أورهان باموك. يشيل ينتمي إلى تنظيم أصولي متطرف يسعى في قلب النظام الحاكم في تركيا فيما “كا” شاعر وصحافي سبق أن عاش سنوات في ألمانيا. عاش سنوات في ألمانيا؟ هذا في حد ذاته دليل كاف ليكون “كا” مداناً في عيني “يشيل”.
لكي يؤلف المرء فكرة أعمق عما يجري في طهران يترتب عليه أن يقرأ، بدلاً من رواية “ثلج” لأورهان باموك، كتاب “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل.
(كاتب عراقي مقيم في السويد )