صفحات العالم

حروب اليمن المتعددة، أو لعبة الجوارير

نهلة الشهال
كالعادة، تبدأ الحيرة من الأسماء والمفردات. هل هي الحكومة «المركزية»، في صنعاء التي أمرت باعتقال 55 قيادياً من جماعة الحوثي (بمن فيهم مبعوث تلك الجماعة إلى اتفاق الدوحة المعقود منذ سنتين بين الطرفين. ها هي التقاليد تضيع!) أم يجدر القول: «الحكومة في صنعاء»، وتجنب النعوت؟ على أساس أن حكومة فقدت فعلياً السيطرة على نصف البلاد الجنوبي، ثم ترسل الطيران لقصف «مركّز» لنصفه الشمالي، لا تعود مركزية إلا في تركزها في العاصمة.
هل هي الحكومة في مواجهة «متمردين»، بل أفدح من ذلك، «مخربين»، سواء في الشمال أم في الجنوب، أم هو صراع بين عشائر على السلطة؟ والعشائر عادة تتركز جهوياً، في دائرة مضاربها، وتجرى تحالفات بينها لتوسيع تلك الدوائر. وهكذا، فالحكومة متحالفة مع بعض العشائر في القسم الشمالي من البلاد ضد عشيرة الحوثيين التي تركّز فيها الحكم منذ الإسلام الأول، وكان الإمام البدر آخر ملوكها على اليمن، قبل أن تصبح جمهورية عام 1962، بانقلاب أجراه العقيد الناصري عبدالله السلال، لينتهي الأمر في يد علي عبدالله صالح فيحكم اليمن منذ عقود، ويستعد لتوريث ابنه كما جرت العادة في جمهوريات المنطقة.
أما النبرة المذهبية فخفيضة في الأحداث الجارية في اليمن، لأن السيد علي عبدالله صالح والحوثيين، كلا الطرفين زيدي، أي شيعي، وكذلك كان السلّال!
والشيعة الزيدية يتركزون في شمال البلاد حيث يمثلون أكثرية كبيرة، فيما يتركز السنة في جنوبها. ومن هناك ترد بصورة متكررة الأنباء عن تعاظم نفوذ القاعدة، أو منطقها على الأقل، يحرك أبناء سلاطين السلطنات القديمة في تلك المنطقة، ويوفر لهم الغطاء الأيديولوجي لاستعادة سلطناتهم تحت مسمى «الإمارة» (ها قد عدنا إلى إشكالية الأسماء التي نكتشف بالمناسبة أننا لم نبتعد عنها ولا لحظة).
كما تخترق جنوب اليمن تعبيرات انفصالية أخرى، «مودرن»، تتناول الحيف الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بهذه المنطقة منذ الوحدة عام 1990، بينما هي الأغنى بالنفط والغاز، ولا تنسى الحرب التي شنّت عليها من قبل الحكومة المركزية في صنعاء عام 1994، ولا تُسامح في «تفاصيل» ما جرى إثرها من مصادرة واسعة لأملاك الجنوبيين، بما فيها «الأملاك الأميرية»، أي العائدة للدولة، وتوزيعها على متنفذين من الشمال – تماماً مثلما يجري في حالات الغُلب ثم الغنم العشائري – ومن تسريح عشرات ألوف الضباط والجنود من الجيش «المركزي»، بدعوى جنوبيتهم. كما لا تنسى المواجهة المتكررة مع كل التحركات المطلبية، وآخرها إغراق مظاهرة عدن بالدم في مطلع 2008، وسياسة صم الآذان عن أي تفهم أو سعي للتفاهم.
كل ذلك يمثل نتائج الأزمة الداخلية المعتملة في اليمن منذ سنوات، متروكة لشأنها، أي من دون مقاربة شاملة. وإذا ما غادرنا سؤال من يمسك بالسلطة (والثروة الناتجة عن الإمساك بها في بلادنا، حيث السلطة مصدر إنتاج الثروة الأساس)، واكتفينا بوصف الواقع، نكتشف أن اليمن يحتل المرتبة الـ 149 لمؤشر التنمية البشرية (من أصل 177 دولة)، وأن الفقر المدقع يطاول الأكثرية الساحقة من الاثنين والعشرين مليوناً (40 في المئة من اليمنيين يحصّلون أقل من دولار في اليوم)، في هذه البقعة المترامية الأطراف، على أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع، حيث الماء والنفط والغاز والموقع الاستراتيجي. ونكتشف أن تشخيص الوضع الحالي، أي انزلاق اليمن إلى حروب عدة معاً، قد تمّ، أو جرى توقعه من قبل قوى يمنية فاعلة، ومتنوعة، امتلكت بصيرة وإرادة إنشاء تحالف.
وبالمناسبة، فالتجربة تكاد أن تكون فريدة في منطقتنا لجهة تأسيس التحالف ذاك على التوافق الفعلي على برنامج أولويات، ولجهة انخراطه في التأثير على السلطة حيث فاوضها مديداً وتكراراً، وتوصل مؤخراً إلى الاتفاق معها على تأجيل الانتخابات العامة لسنتين، لتحقيق حسن التحضير. ولعل «اللقاء المشترك»، (الذي يضم الحزب الاشتراكي حاكم اليمن الجنوبي سابقاً، والتجمع اليمني للإصلاح وهو أخواني الطابع، وبعض أحزاب أخرى كالبعث والناصري، وحزبين شيعيين صغيرين، وبعض الشخصيات)، يشعر اليوم بمقدار عظيم من الخيبة والخديعة، بعد القلق على مصير البلاد… سعى التحالف إلى اقتراح استراتيجيا لترميم الموقف وتفادي تفاقمه والبدء بمعالجته.
لكن الخطة كانت تتطلب موافقة الحكومة «المركزية» على آليات تُحد من سلطاتها المطلقة والمتداخلة… يعني شيئاً من الفصل بين السلطات، ومن عقلنة معدل نجاح الرئيس علي عبدالله صالح في الانتخابات، الذي لا ينخفض عن 98 في المئة، (فإذا كان الرئيس يحظى بمثل هذا الإجماع، فمن يا ترى يتمرد في اليمن شمالاً وجنوباً؟)، ومن الرضا أن يكون نجاح حزبه في انتخابات المحافظات أقل مما جرى، حيث سيطر على مجالس 18 من أصل 20 محافظة! وإيراد ذكر هذا التحالف، بمواصفاته تلك، ضروري لجهة مقاربة مسألة مركزية (هي الأخرى!)، أي الافتقار في حالات مشابهة للأطر السياسية ذات الوزن الاجتماعي الفعلي والقادرة على الاقتراح، ما يفاقم الموقف ويكون غالباً أحد أسباب اندفاعه نحو الانفجار بلا رجاء. بينما لم يمنع توافر الإطار في حالة اليمن، واشتغاله لسنوات، من الوصول إلى المصير نفسه.
إنها حروب متعددة إذاً تلك التي تفتك باليمن اليوم. فالحرب التي تخوضها السلطة المركزية مع ما تسميه «مناطق الحوثيين» (وهي عدة محافظات وليس صعدة فحسب)، تستهدف «النصر»، وهي من العنف الــذي يسـد باب التسوية.
وعلى رغم أنها حتى الآن في بداياتها، فقد أدت إلى آلاف القتلــى ومئـــات ألوف النازحين، ودمار شامل، فلا يصعب تصور الجرح البليغ الذي تخلفه، ونتائج ذلك لجهة التأسيس لحروب أهلية لا نهاية لها. وجنوب اليمن هادئ اليوم، ولكن إلى متى؟ ثم يظهر في المشهد البعد الإقليمي المحيط، واليمن يتوسط منطقة شديدة التوتر، يخترقها تجــاذب إقليمي مهول. فهل يعني ذلك أن اليمن سيكون من الآن فصاعداً ساحة ذلك الصراع، بعدما دمر العراق؟ ثمة ولا شك أسباب أخرى ساعدت في دمار أرض الرافدين، لكن الأسباب الأخرى – وإن مختلفة – متوافرة في اليمن أيضاً. يا للبؤس!
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى