نكء الجراح
حسام عيتاني
على بشاعتها، ما زالت عبارة «نكء الجراح» تحتل حيزاً في التبادلات السياسية اللبنانية والعربية. آخرها كان اتهام الوزير غازي العريضي للنائب نهاد المشنوق بـ «نكء الجراح» بعد إثارة النائب البيروتي ما اعتبره اهانة للناس انطوت عليها مواقف وليد جنبلاط الأخيرة.
احدى الصحف ذكرت ان الرجلين تعاتبا عتاباً هادئاً اثناء اتصال هاتفي جرى بينهما في اعقاب تصريحاتهما، ما يفترض ان يكون انهى السجال في بداياته. لكن ذلك لا يجيب عن السؤال حول معنى العبارة وتكرارها المضيض لسامعيها.
واذا تذكرنا ان الجراح التي احتج العريضي على نكئها لا تعود في الزمن لأكثر من اسابيع قليلة، لبَانَ ان السياسة في لبنان غير قابلة للحصر وان السياسيين لا يمكن فهم مواقفهم في مدى زمني يتجاوز الساعات والايام على الأكثر.
صورة السياسة كما يقدمها النائب التقدمي الاشتراكي تُختصر بمتوالية لا تنتهي من الجراح. كل موقف هو جرح يصاب به طرف او طائفة. وكل رد هو محاولة لنكء الجراح لا تستحق سوى الإدانة والتنديد. اما التعالي على نكء الجراح فهو الموقف المطلوب من الجميع حرصاً على الحساسيات والخصوصيات، بما هي الاسم الرمزي لحسابات تذهب بعيداً في شطحات تأخذ اصحابها وجمهورهم ذات اليمين وذات اليسار، ويكون التراجع عنها من دون بذل الجهد اللازم لإقناع الحلفاء السابقين بضرورات التغيير، موقفاً جديداً يلغي ما قبله ويضع أي نظر فيه او عودة اليه في سياق نكء الجراح، بما هو محاولة لإثارة الخصومات والتمسك بلغة عفا الزمن عليها.
بيد ان سلوكاً من الطينة هذه لا يدع مجالا لقيام معنى للتاريخ ولا للنقد ولا للمراجعة. ويمنع اسباب التقييم العقلاني للسياسات والمواقف والعلاقات التي تنتمي، او نخال انها تنتمي، الى عالم الواقع الملموس، ويحيل الى رؤى وخصوصيات تخص صاحب المواقف وحده ويخص بها، اذا شاء، طائفته ولا مزيد.
والحق ان التعالي عن نكء الجراح، هو الموقف الذي يستحق الرفض طالما ان تاريخ هذه المنطقة من العالم جراح لم تعالج بعد ولم تندمل، ما يهدد بتقيحها والتهابها مجدداً. واذا اراد المرء توسيع دائرة الكلام، لقال إن ما امتنع اللبنانيون عن تقييمه بعد نهاية الحرب الاهلية في 1990، وعن علاج جراحه وتضميدها كما ينبغي التضميد، عاد ليطاردهم بعد خمسة عشر عاماً وليؤكد لهم ان التسويات القائمة على زغل، لا تفعل في واقع الأمر سوى تمديد الانقسامات التي جرّت البلاد الى مطحنة الحرب الاهلية والى تهلكتها.
لكن هذا كلام لا وزن له عند من يدير السياسات في لبنان وغيره من بلاد العرب على اساس المياومة السياسية التي تعتمد على ما «يرى» صاحبها كما يرى العرّاف وما تلتقطه اجهزة استشعاره الكافية والمُغنية، بحسب انصاره، عن المراكمة بعيدة المدى.
لذا، يكون نكء الجراح هو العائق امام سير التاريخ وتقدمه فيما تدفع الضرورة والخصوصية الى فتح جراح جديدة يُمنع النظر الى ما يعتمل داخلها من عناصر المرض.
بكلمات أخرى، ربما لم يهتم الوزير والنائب بما يتجاوز خلافهما الآني، لكن المسألة، كل المسألة، تكمن في أي موقف من تاريخنا المعاصر والقديم نتخذ، واي الجراح يجب ان نسارع الى نكئها قبل ان نموت بسببها من دون ان نعلم ما هي الآفة التي قضت علينا.
الحياة