أزمة السياسة و”القطعان الطائفية”
سعد محيو
ثمة شعور في لبنان بأن السياسيين نجحوا في جعل المواطنين أعداء ألداء للسياسة. وهو شعور قوي ويبدو أنه صحيح.
فكثرة كاثرة من المواطنين لم تعد تتابع الأخبار السياسية، وبالتحديد برامج الحوار السياسي. وهي إن فعلت، فهذا يكون إما بدافع قلق أمني ما (كالتهديدات “الإسرائيلية” الأخيرة) أو بحفز من مصلحة معيشية ما (أسعار الوقود، الضرائب.. ألخ).
كل ما يجري الآن، من أزمة حكومية طاحنة سبّبها الانتقال من “الثلث المعطل” إلى “الصهر المعطّل” إلى الانقلابات الجنبلاطية المدوّية مروراً باختلاط حابل 14 مارس/آذار بنابل 8 مارس/آذار، لم تعد تعني شيئاً لأحد في الشارع. فلا حماسة لهذا الطرف، ولا دفاع عن ذاك الطرف، بل كلمة واحدة تتردد على أفواه الجميع: الملل.
وهذا ينطبق حتى على جمهور حزب الله الواسع، على رغم أن هذا الحزب ينأى بنفسه عن السياسة اللبنانية، إما لأنه لايريد المشاركة في نظام سياسي لايعترف به، أو لأن هدفه الوحيد هو الاستعداد لجولات جديدة مع “إسرائيل”. وفي كلا الحالين، يجد هذا الجمهور نفسه محبطاً من سياسة الحزب المحلية، لأنها لا تتضمن أي برامج اقتصادية واجتماعية.
هذه الفجوة بين السياسة والسياسيين قد تبدو خطيرة في أي مجتمع ديمقراطي. إذ إن كل فلسفة الحكم الديمقراطي وشرعيته تقوم على قبول المواطنين به واقتناعهم بجدوى العمل السياسي في إطاره. وحين يتبدد القبول والاقتناع، تتحوّل المشكلات فيه من أزمات سياسية إلى أزمة نظام. حدث هذا إبان عهد الجنرال ديغول في فرنسا، وحرب فيتنام في أمريكا، والاضطرابات السياسية في إيطاليا. وعلى رغم أن ذلك لم يؤد إلى إطاحة النظام الديمقراطي، إلا أنه ادى إلى تحوّلات عميقة فيه عملت على استعادة ثقة الشعب بالسياسة والسياسيين.
هل يمكن أن يتكرر الآن الأمر نفسه في لبنان؟ كلا!. لماذا؟ لسببين:
الأول، لأن اختراق الطائفية للنظام السياسي اللبناني، يجعل هذا النظام في الواقع فاشياً على رغم كل تظاهراته الديمقراطية. فالسلطة الحقيقية فيه هي لزعيم الطائفة لا للدستور أو للدولة. فهو يأمر ويجب أن يُطاع، إن لم يكن عن قناعة فبهدف الحفاظ على التماسك ضد “الأعداء” الآخرين في الطوائف الأخرى. وهكذا يكون من السهل على جنبلاط أن ينقل الطائفة الدرزية من “ثورة الأرز والحرية والاستقلال” أمريكية الميول إلى نقيضها ثورة حزب الله من دون أن يخشى لومة لائم في طائفته. وهكذا أيضاً، يمكن للجنرال عون أن يقفز من الولاء لأمريكا وفرنسا إلى التحالف مع عدوه السابق سوريا التي شنّ ضدها حرباً عسكرية ضروس، من دون أن يسأله أحد في الطائفة المارونية (أو نصفها على الأقل) ماذا يفعل.
السبب الثاني أن القادة السياسيين اللبنانيين يطبقون أصلاً نظريات نيقولو ماكيافيلي وليو شتراوس (فيلسوف المحافظين الجدد الأمريكيين) الداعية إلى ممارسة الخداع و”الكذب النبيل” على المواطنين، بهدف منحهم هدفاً وشعوراً بالمعنى، لكن في الدرجة الأولى لأنهم “قطيع هائج يحتاج دوماً إلى من يقوده”.
ماذا يعني كل ذلك؟ يعني أمراً واحداً: أزمة السياسة حقيقية وعميقة في لبنان. لكنها لن تؤدي إلى تطور أو تغيّر طالما بقيت “القطعان الطائفية” قطعاناً. والأرجح، من أسف، أنها ستبقى كذلك!
الخليج