جدال أسرويّ داخل العائلة المقدّسة!
نصر شمالي
شكا الرئيس الأمريكي باراك أوباما من وسائل الإعلام التي تضخّم المواضيع التي يدور حولها الجدل بين الأمريكيين والإسرائيليين، وأبدى أسفه لعدم الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الجدل يدور داخل العائلة الواحدة الأمريكية/الإسرائيلية! لقد حدث هذا أثناء لقاء الرئيس مع الزعماء اليهود الأمريكيين في أواسط شهر تموز(يوليو) الماضي (2009) ففي معرض ردّه على أحد الحاضرين الذي سأله: ‘لماذا تضغط على إسرائيل ولا تمارس الضغط على الطرف الآخر؟’ قال أوباما: ‘لأسفي فإنّ وسائل الإعلام تضخّم موضوع الجدل الذي هو داخل العائلة الواحدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل’!
وجدير بالإيضاح أنّ شكوى أوباما من مبالغات وسائل الإعلام، بصدد الجدل العائلي الأمريكي الإسرائيلي، ليست من حيث الشكل سوى شكوى من اليهود الصهاينة بالذات، الذين يسيطرون على معظم هذه الوسائل، وينبغي أن نسارع ونضيف أنّ هذه ‘اللعبة’ الإعلامية الصهيونية، الهادفة إلى دفع النظام الرسمي العربي نحو مزيد من التفريط المجاني وتحقيق المزيد من القوة والتقدّم للمشروع الاستيطاني الصهيوني، لا تمارس اليوم ولأول مرة في عهد أوباما، بل مورست في جميع العهود بلا انقطاع وبموافقة مسبقة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، حتى في العهد الذي كان فيه هنري كيسنجر وزيراً للخارجية!
في العام 1975 اجتمع كيسنجر بالزعماء اليهود الأمريكيين في جلسة جدل عائلي، وسمع منهم أسئلة مشابهة لهذه التي سمعها أوباما، منها هذا السؤال: ‘هنري.. كيف تخبر العرب بما يستطيعون فعله وبما لا يستطيعون فعله.. أنت تعرف ماذا أقصد’! أجاب كيسنجر: ‘نعم أنا أعرف ماذا تقصد.. أنت تعرف أنّه من المسلّم به أنّ العرب ينظرون باتجاه واشنطن.. أنا لم أتحدّث مع العرب إطلاقاً حول الحدود.. في كلّ مرّة حاولوا فيها إثارة هذه المسألة كنت أردّ عليهم بصور متعدّدة أنّ الوقت لم يحن بعد.. أقول لهم أنّه يتوجّب عليهم التفكير بالتزاماتهم بالسلام.. أقول لهم أنّه يتوجّب عليهم تقديم اقتراحات محدّدة حول كيفية تعايشهم مع إسرائيل.. بالتأكيد أنا لم أثر شهيّة العرب’!
لقد شرح كيسنجر بإيجاز بليغ كيف أنّه في موقع يسمح له بأن يأخذ من الحكّام العرب كلّ شيء من دون أن يعطيهم أو حتى يعدهم بأيّ شيء! واليوم، فإننا حين نتابع تحرّكات الإدارة الأمريكية الحالية ونستمع إلى تصريحاتها لا نجد فيها أيّ خروج على تحرّكات وتصريحات الإدارة التي كان كيسنجر وزير خارجيتها في العام 1975! لقد أوضح أوباما في أجوبته على أسئلة الزعماء اليهود الأمريكيين أنّه يمارس ضغطاً شديداً على الحكّام العرب، وأنّه طالبهم بمبادرات حسن نيّة تجاه ‘إسرائيل’ في ثلاثة مجالات: السماح بتحليق الطائرات الإسرائيلية المدنية في أجواء بلادهم، ومنح تأشيرات دخول للسائحين الإسرائيليين، وإجراء لقاءات علنية بين زعماء عرب (بخاصة من السعودية) وزعماء إسرائيليين، وأنّهم أجابوه باستعدادهم للقيام بمبادرات طيبة، ولكن فقط بعد أن يعلن الإسرائيليون عن وقف البناء في المستوطنات!
في الحقيقة، لقد شكا الرئيس أوباما من الحكام العرب أيضاً، فبينما يبالغ الإسرائيليون في إظهار الزيادة في جرأتهم فإنّ الحكّام العرب يبالغون في إظهار النقص في شجاعتهم! ففي تقدير أوباما، الذي يظهره مواربة ومداورة، لم يبق لاستكمال دفن القضية الفلسطينية سوى خطوة يقدم عليها الحكّام العرب وهي الانطلاق في عملية التطبيع علناً ورسمياً (وليس سرّاً كما هو الحال) مع الإسرائيليين، فدفن فلسطين والفلسطينيين يتمّ بعزلهم تماماً عن محيطهم العربي والإسلامي، وهو ما أصبح وشيكاً وقابلاً للتحقيق الفوري لولا افتقار الحكّام العرب إلى المقدار الكافي من الشجاعة وحسّ القيادة! هذا ما يراه أوباما!
وكان هنري كيسنجر، في اللقاء مع الزعماء اليهود الأمريكيين الذي عقد عام 1975، قد قال بصدد فلسطين والفلسطينيين ما يلي: ‘لكني تركت القضية الفلسطينية جانباً، وتفرّغت لقضايا الحدود (مع مصر) أملاً في عزل الفلسطينيين، وهو الأمر الممكن التنفيذ’! وإنّ هذا هو بالضبط ما تواصل الإدارة الأمريكية اليوم محاولات تحقيقه: العزل التام للفلسطينيين! حتى أنّ أوباما شكا أيضاً من عجز السلطة الفلسطينية: ‘التي لا تظهر موهبة قيادية’! أي لا تنخرط تماماً، علناً ومن دون مواربة، في خدمة العائلة المقدّسة!
أمّا أغرب ما في الأمر فهو أنّ ألكسندر هيغ، الذي تولّى مهام وزارة الخارجية الأمريكية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، كان يسعى إلى تحقيق تحالف استراتيجي عربي/إسرائيلي ضدّ الثورة الإسلامية في إيران التي كانت قد انتصرت توّاً، وبدفع من الولايات المتحدة ساهمت بعض الأنظمة العربية بدور حاسم في نشوب الحرب العراقية/الإيرانية السيّئة الذكر، بينما انصرفت واشنطن إلى ممارسة الاحتواء المزدوج ضدّ إيران والعراق في ظلّ تحالف استراتيجي عربي/إسرائيلي غير معلن، لكنّه لم يكن خافياً على أحد، وقد واصلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة مساعيها في اتجاه تحقيق هذا التحالف الذي بدا أشدّ وضوحاً في الحربين الأخيرتين ضدّ لبنان ثمّ ضدّ غزّة، وهاهو هذا التحالف اليوم وقد تحقّق أو يكاد يتحقّق، وإلاّ فما معنى أن يكون سقف المطالب الرسمية العربية هو مجرّد إعلان الإسرائيليين عن تجميد عمليات البناء في المستوطنات (التجميد وليس التراجع) كشرط لتطبيع العلاقات معهم رسمياً وعلنياً؟
غير أنّ الجدل المفتعل، الاحتيالي، مستمرّ وسوف يستمرّ داخل العائلة الأمريكية/الإسرائيلية المقدّسة، حتى لو امتلك الحكّام العرب ما يكفي من الشجاعة وموهبة القيادة وأعلنوا تحالفهم مع الإسرائيليين رسمياً وعلنياً، لأنّ شيوخ وحكماء العائلة المقدّسة يعرفون جيّداً أنّ مشكلتهم مع الأمة العربية والإسلامية التي يستحيل أن تفرّط بأيّ من حقوقها، وأنّ انخراط حكّامها في خدمتهم رسمياً وعلنياً، على خطورته وأهميته الفائقة، ليس هو القول الفصل والفعل الحاسم النهائي!
‘ كاتب سوري
القدس العربي