إمارة رفح الإســلامية ودولة غزة
بدرالدين حسن قربي
لاشك أن ماحدث في مدينة رفح من قطاع غزة هو مجزرة بكل معنى الكلمة، ومن ثم فليس مبالغة القول أن جريمةً كبيرةً كانت الجمعة 14 آب/أيلول، حصيلتها 28 بني آدم عدداً قابلاً للزيادة. قيل فيهم أنهم قتلى، وقيل بل شهداء عند ربهم يرزقون، وقيل بل مجاهدون في أكناف بيت المقدس، وجهادهم ماضٍ إلى يوم قيامتهم، تقرّبوا إلى الله بجهاد الأعداء، ويوم ضاقت عليهم سلطاتٍ ومعارضين جاهدوا ببعضهم طلباً في جنةٍ لهم ونارٍ لناسهم ومواطنيهم الخصوم.
أرض المعركة أو موقع الجريمة ومكان الملحمة بيت في شارع السلام المزدان بحطام المنازل والأكوام الخرسانية نتيجة الحرب الإسرائيلية على القطاع في يناير الماضي، بيت رفعه من رفعه ليُذكَر فيه اسم الله، ويُسبَح بحمده، ويُنَادى إليه في العشي والإبكار إيماناً به وتقديساً لعظمته، وتصديقاً برسله ومحبة لخلقه.
المقاتلون أو المتقاتلون أنْعِم وأكرِم، كل بما لديهم فرحون، وكل يصف مقاتليه وقاتليه بما يريد، ويدخلهم جنةً أو ناراً كما يريد. فإذا علمنا أنه في الحرب الإسرائيلية الفتاكة على قطاع غزة مطلع هذا العام لم تتجاوز خسائرها الثمانية من أفرادها وكوادرها حسب مصادرنا الخاصة، وإذا علمنا أيضاُ أنها خسرت في معركة مسجد ابن تيمية ستة من عناصرها في بعض يوم، فيمكن لنا أن نتصور طبيعة هذه الحرب الفلسطينية الفلسطينية الطاحنة وحجم القوة المستخدمة لمعالجة المشكلة التي نشأت مع آحاد من فصيل فلسطيني آخر خالفهم لسببٍ ما رآه. ولئن اختلف الناس على ماكان مابين مستنكِر ومستهجِن ومُبغِض، ومحب ومبرِّر ومؤيد، فإنه من المؤكد تأكيداً أن كل عناصر هذه المجزرة قاتلاً ومقتولاً وشاهداً ومشهوداً، هم فلسطينيون شحماً وعظماً ولحماً ودماً وعيناً ووشماً، وكل واحد فيهم لحيته أطول من لحية الآخر.
قالوا عن الذين قاموا بمحاصرة بيت الله ومداهمته وما تبعه من القتل والجرح أنهم عناصر من الشرطة والأمن في وزارة الداخلية المقالة في قطاع غزة وليس أحداً غيرهم، وأن لاعلاقة لحركة حماس بذلك، باعتبار أن حال رجالات الشرطة والأمن معروف ومكشوف اعتقالاً واضطهاداً وتعذيياً وقتلاً وأمناً وأماناً، وهو الغالب على أمرهم، وكأنما يريدون إقناع الناس أن لاعلاقة لحركة حماس الإسلامية والمقاومة والمجاهدة بما كان من إراقة الدماء وقتل الأبرياء، وكأن الناس لايعرفون أن حماس هي السلطة في غزة، وأن الذين فعلوا مافعلوا في رجالات جند أنصار الله في بيت الله ليسوا هم اليهود.
وقالوا عن الذين حوصروا في بيت الله في الجمعة الأخيرة من شعبان الجاري أنهم مجموعة تكفيرية ذات أفكار شاذة، تتلقى أموالاً من الخارج، ووراءهم جهات عدوة سلطوية فلسطينية بائدة أو إسرائيلية، وأنهم ليسوا جماعة سلفية ولاجهادية، بل هراقطة يريدون تحكيم شرع الله في غزة التي فيها شرع الله، ولو صدقوا لأعلنوا إمارتهم في الضفة الغربية التي هي محل الفساد والمفسدين، وأنه لو لم تتحرك حماس بهذه الطريقة لتعقدّت الأمور أكثر، فشقّ عصا الطّاعة عن الحاكم المجتهد في ترسيخ عدل الإسلام مرفوض، و يجب التخلّص منهم بكُلّ الوسائل. وزادوا أن قائدهم الخمسيني عبداللطيف موسى أحد أبرز منظري الفكر السلفي في القطاع مصاب بلوثة عقلية حسب رواية ناطق حماس، الذي ذكّرنا بمقالته بما كان في مجزرة الحرم الإبراهيمي المعروفة في الجمعة الأخيرة من رمضان عام 1994 والتي ارتكب إثمها وكِبْرها المستوطن والمتطرف اليهودي باروخ كولدشتاين.
فعندما قُتل من قُتل من المصلين داخل الحرم الابراهيمي من أصحاب العقل والعقول، فقال الصهاينة عن القاتل إنه مصاب بلوثة، وأُخرِج بناء عليه بريئاً من جريمته. وقُتل من قتل في مسجد رفح بعد محاصرة العقلاء له ممن ظهروا على الفضائيات بزعم أن الإمام والخطيب الذي كانت صلاته وخطبته تُبث عبر قناة الاقصى الفضائية قبيل أشهر، وأن الطبيب المقدسي مدير مركز شهداء رفح الصحي المعروف والمشهود له في خدمة الناس ومساعدتهم مصاب بلوثة عقلية. ومن ثم أباحوا لأنفسهم ماأباحوا في هذه الطريقة النزقة والمتعجلة والمأساوية جداً بزعم ما فيه من لوثة، ولم يجدوها عذراً في عدم القتل وقد أسقط عنه التكليف المدني والشرعي بما زعموه له، بل سلكوا أشد الطرق وعورةً في معالجة هذا الملف، وذكّرونا بما فعله ثوار حكم البعث السوري عام 1964 من ضرب لمسجد السلطان في مدينة حماة وحصار من فيه وتدميره، واقتحام دباباتهم أيضاً للمسجد الأموي في دمشق عام 1965 وإطلاق النار على من فيه من المعتصمين، وبما قيل وقتها عن القتلى والمحاصرين والمعتصمين أقرب مايكون إلى مايقال عن أصحاب معركة رفح. ولكن، أن يقول الصهاينة عن القاتل كولدشتاين فيه لوثة لتبرئته أمر ليس عجباً، بل مايثير العجب، أن يقول الحماسيون عن نصيرهم السابق وحليفهم وبعد أن قتلوه أيضاً، أن فيه لوثة لتأكيد إدانته. إنه لممّا لا شك فيه أن هناك فروقات كبيرة جداً بين مجاهدي حماس وثوار البعث وغيرهم، ولكن مما لاشك فيه أيضاً أن الوقائع على الأرض اقتربت من أن تكون متماثلة وتستدعي بعضها بعضاً.
فيما يبدو لنا حقيقة، أن ما حدث كان فتنة كبرى اختلط فيها الحق بالباطل، نجحت فيها حماس وبطريقة اتسمت بالحماس في سرعة إطلاق النار واستخدام القبضة الحديدية الضاربة في توجيه ضربة قاصمة لجماعة جند أنصار الله وإنما بتكلفة عالية جداً من رصيدها وصورتها في الداخل الفلسطيني وخارجه مما ستؤكده الأيام للمتشككين، فضلاً عن أنها أعطت الذرائع للمبغضين والشامتين خصوصاً في القول إن حماس تقتل أصحابها بحماس، وتختار السلاح في مواجهة أشقاء السلاح، وتستخدم العصا الغليظة لمعالجة خلافاتها مع أصحاب القضية الواحدة والخندق الواحد.
إن ماأنكرته حماس على فلسطيني فتح الثورة والمقاومة وغيرهم بدخولهم معترك السياسة والمفاوضات بألاعيبها وأوساخها ومن ثم فسادها، والذي كان سببها المعلن والرئيس للانقلاب عليهم في غزة، ومن ثم إقامة سلطتها المستقلة فيها، هو نفسه ماأعيد إنتاجه اليوم في إنكار جند أنصار الله على حماس بطريقة ما. ومن ثم فعندما خُيّل لعقلاء حماس ومجاهديهم أنهم أقاموا قِطاعهم الإسلامي، وبدؤوا الشغل في بازارات السياسة، اتهمها البعض ممن عُبّؤوا بثقافة الجهاد والتفجير والاستشهاد والتحرير بالتفريط والتقصير، وأنها ماضية على طريق السابقين لها، فقام أمير حركة جند أنصار الله برفع الكرت الأحمر في وجه حماس مؤكداً أن لاعصمة لأحد، ومعلناً في الوقت نفسه إقامة إمارته الإسلامية لعدة ساعات في رفح، لتكون أقصر الإمارات عمراً، وليبين لهم أنه أكثر عقلاً وتعقلاً منهم، ولله في خلقة شؤون.
تأكيد أمير حركة جند أنصار الله في خطبته العتيدة التي أتت بأجله أن جماعته لن تبادر بشن هجمات ضد حماس أو حربها، وإنما – والقول له – من استحل دماءنا سنستحل دمه، ومن استحل أموالنا سنستحل ماله، ومن يتّم أطفالنا سنيتّم أطفاله، وان رمّلوا نساءنا سنرمّل نساءهم، وأنهم لن يأخذوا المسجد إلا على أشلائنا وهذا يعنى أن أيامهم ستقصر. فهل يعني هذا التأكيد والرد الشرس لحماس عليه أن مرحلة جديدة من الاقتتال الفلسطيني قد بدأت، وأن القطاع ماضٍ بعقلائه وأصحاب اللوثات فيه بطريقة أو أخرى في طريق الفوضى الخلاقة قتلاً واقتتالاً بين ناسه وأهله، وأن السلاح المقاوم الذي يؤكد كل طرف فيه أن وجهته معروفة وواحدة ومتفق عليها سيتجه كلياً أو جزئياً باتجاه أهله ومعارضيه، ويصبح أداة إخضاع لمواطنيه وقهر لمخالفيه، وقمع لمعارضيه ولاسيما إذا ما ظهرت إمارات جديدة وازداد عدد الملوثين. إننا بالتأكيد لانتمنى لأهلنا وقطاعنا ذلك، وإنما الأشهر القادمات تؤكد ذلك أو تنفيه.
خاص – صفحات سورية –