من الأكثر مقاومة ضمن -المقاومة-؟
جورج كتن
هل حقاً نحن في القرن الواحد والعشرين أم أننا ما زلنا في عهد الفتوح والجهاد ضد كفار قريش والفرس والروم؟. سؤال يرد بعد الأحداث التي تجري في أمارة غزستان الحماسية وبلدان أخرى مبتلية بالإسلام السياسي، ففي رفح على الحدود المصرية أعلن شيخ جامع إبن تيمية وسط أنصاره المدججين بالسلاح، “إمارة فلسطين الإسلامية في أكناف بيت المقدس”، مساوية لجماهيرية القذافي العظمى في طول الأسم.
وراء الإعلان منظمة سلفية دعت نفسها “جند أنصار الله” يقدر عدد مسلحيها بالخمسمائة، يمكن جمع “شتات” برنامجها من خطب وبيانات وتصريحات على مدى العامين منذ تأسيسها، فهي مع تطبيق الشريعة وتتهم حماس بالتهرب من ذلك وبأنها حزب علماني ينتسب للإسلام زوراً مثل العدالة والتنمية التركي. فالأمارة وجند الله سيطبقون الحدود و”الحشمة” بقوة السلاح. كما انتقدت الهدنة التي تطبقها حماس مع إسرائيل واتهمتها بالتهرب من تحرير الارض وبيع نفسها مقابل أموال الشيعة والصليبيين، وناشدت أهالي القطاع التخلي عن دعم حماس لأنها حركة كافرة أوقفت القتال مع العدو ولاحقت المجاهدين فصادرت أسلحتهم واعتقلتهم وحلقت ذقونهم!..
لا ترى الجماعة في فكر ومنهج حماس الإخواني أي دعوة للجهاد العالمي ضد الكفار إذ اكتفت بمواجهة الاحتلال القطري لأنها تسعى للسلطة وليس لتطبيق الشريعة والجهاد لنشر الإسلام في العالم. كما أفتت الجماعة بتحريم المشاركة في أية انتخابات واتهمت حماس بالجلوس مع “المرتد” عمر سليمان واستقبال وفود من الكونغرس الأميركي وخاخامات اليهود أعداء الله. ومن أطرف انتقاداتها لحماس أنها “تطبق الموسيقى بدل تطبيق الشريعة” عندما أُقيمت مدرسة لتعليم البنات الموسيقى وهذه مخالفة مزدوجة لتحريم تعليم البنات ولتحريم الموسيقى!
الجماعة رأت إمكانية نموها على حساب حماس التي نمت على أنقاض فتح في القطاع، بعد اتهامها بكل ما يحويه قاموس “الصحوة” من شتائم. لكن الأمارة التي تذكر بإمارة العبسي للجهاد لتحرير المسجد الأقصى بدءاً من قتل الجنود اللبنانيين “الكفار”، هي الاقصر عمراً بين الإمارات الإسلامية القديمة والحديثة، فهي لم تدم أكثر من ساعات قبل حصار مسلحي حماس للجامع والاشتباك مع “جند الله”، إلى أن تمت السيطرة عليه وتطهيره من فلول الجماعة ونسف منزل “أمير المؤمنين” المُبايع وإعلان مقتله مع 15 مسلحاً وسقوط 150 جريحاً واعتقال 40. وقد أبلت قوات حماس في “غزوة الجامع” بلاءً حسناً، فقوتها تظهر عند استئصال منافسيها كما في مجزرة كوادر فتح قبل عامين.
جماعة “جند أنصار الله” أصبحت معروفة أكثر منذ حزيران الماضي عندما نفذت عملية أسمتها “غزوة البلاغ” كما سمى بن لادن أهم غزواته “غزوة مانهاتن”. وقد أعلنت أنها جرت من على ظهور الخيل، ونشرت فيديو يبين عناصرها يمتطون الجياد “المفخخة” يجولون ويصولون في معسكرات التدريب التي أقاموها فتغاضت عنها حماس في البداية كما عن جميع أنشطتهم ووصفت قتلاهم الخمسة في الغزوة بالشهداء رغم مصادرتها لأسلحة من نجا منهم بعد عودته مدبراً.
قبل الغزوة “النوعية” كان جند الله قد اختطفوا صحفيين أجانب وتعرضوا لموكبي كارتر وبلير الذين زارا القطاع منفصلين، واستهدفوا كنائس مسيحية وصالونات حلاقة وتجميل ومقاهي انترنت على أنها تنشر الفساد والرذيلة، وأعلنوا أنهم لا يقومون بهذه الأعمال لنصرة الدين إلا بعد استصدار فتاوى شرعية للتعرض للمفسدين! لكن أهم أعمالهم لفرض الحشمة تفجير منصة الفرقة الموسيقية في عرس بالقطاع مما أدى لإصابة 60 من حضوره.
السلفية الجهادية في غزة ليست فقط جند أنصار الله، فهناك أسماء أخرى متداولة مثل “أنصار السنة” و”جيش الإسلام” و”جلجلت” و”قاعدة الجهاد في أرض الرباط” وغيرها.. لم يتأكد بعد إن كانت تعمل سوية أم أن بعضها أسماء لتنظيم واحد. وهي حسب بعض المصادر جندت مجاهدين أفغان ويمنيين ومصريين وباكستانيين تسللوا من مصر عبر الانفاق، وأبرزهم أبو عبد الله المهاجر الملقب بالسوري الذي دخل غزة بمساعدة حماس وهو مطلوب في مصر لاتهامه بعمليات إرهابية، وكان قد صرح بعد خلافه مع حماس أنه لم يأت لغزة لحمل بندقية لحراسة المجلس التشريعي الذي يحكم بغير شرع الله..
كانت حماس قد بدأت عملاً “فكرياً” لإقناع منتسبي السلفية الالتحاق بصفوفها ولكنها بعد فشلها استعملت “الكي” فشنت “غزوة الجامع” الأخيرة وخاصة بعد أن أعلنت الجماعة إمارتها وإثر بيان لأنصار السنة قال أنه سيلقي حماس إلى مزابل التاريخ. وكان مسؤولو حماس عند اتهامهم بتسهيل دخول القاعدة ينفون وجود تنظيمات سلفية مقربة من القاعدة بل أفراد متعاطفين معها، ويعزون ذلك لأن المسلمين مستهدفين في فلسطين والعراق وأفغانستان وباكستان.. وعندما استفحلت ظاهرة السلفية قال مسؤولو حماس عن بياناتها أن ورائها اليد الإسرائيلية والمخابرات المصرية وأجهزة فتح الأمنية لتشويه سمعة “المقاومة” كأنها لم تتشوه بعد. فيما مسؤول آخر فال أنها تعبير عن “انزلاقات فكرية!” ولا علاقة لها بأية ارتباطات خارجية، ونادراً ما لا تتهم حماس مخالفيها ومنافسيها بالارتباط الخارجي، ربما هذه المرة لأن حماس نفسها انزلاقاً فكرياً عن الوقائع العنيدة. تعاملت حماس مع منظمات السلفية كما تعاملت معها أنظمة مجاورة، أطلقتها لخدمة مصالحها، ثم عندما استفحل أمرها عملت لقص أجنحتها.
ولكن بماذا تختلف حماس الإخوانية عن الجماعات السلفية ؟ الإثنان يعملان من أجل تطبيق حكم الشريعة لكن الإخوان يفضلون التدرج والمرحلية، فهناك مرحلة التثقيف الديني والعمل الخيري التي اجتازتها حماس إلى مرحلة التمكن القطري بعد السيطرة على القطاع، ومثلها الحركات التابعة للتنظيم الإخواني الدولي حيث جهادها الآن ضد القوى الخارجية المتواجدة في البلاد الإسلامية فقط، مع تأجيل الجهاد “الأكبر” في بلدان الكفر العالمي إلى أن “تتمكن” من البلدان الإسلامية وعندها يبدأ الجهاد في العالم ضد الكفار من كل لون وجنس..
فيما عدا أن السلفية تريد فتح جميع الجبهات الآن دون تمهل، فالأهداف واحدة والخلاف حول ترتيب أولوياتها. حماس ليست ضد تطبيق الشريعة لكنها تعلم أنه لا يمكنها إعلان غزة دولة دينية في ظروف الحصار الراهنة وهي مع ذلك تمرر بعض “قيود الحشمة” كما فعلت بالنسبة للمحاميات الفلسطينيات، هكذا بالتدريج إلى أن تتم أسلمة المجتمع حسب الفهم الإخواني له، الذي لا يختلف في النهاية عن الفهم السلفي الراهن.
لكي لا تتهم حماس بانها كافرة عليها أن تبدأ بقطع الرؤوس والايدي والارجل على خلاف والرجم والجلد وغيرها مما يمكن الاجتهاد به، ففي أفغانستان وهي المصدر الأهم “للإبداع الاجتهادي”، هدد قادة طالبان مؤخراً كل من يشارك في الانتخابات الأفغانية بقطع أصبعه الذي يدل أثر الحبر عليه عن مشاركة صاحبه. وكان صدام قد اجتهد أيضاً بقطع آذان الجنود العراقيين الفارين من الحرب العبثية مع إيران.
فيما عدا الخلاف حول التوجه القطري أم الدولي والتدرج أو التسرع في تطبيق الشريعة فحماس لا تختلف عن السلفية في تسخير الدين للوصول إلى السلطة واستخدام العمل المسلح لتوسيع التأييد، وإذا كانت قد تراخت مؤقتاً في استخدامها فإن هناك من ينتظر دوره لتجريب التطرف والافكار المتخلفة التي تاجر بها الإخوان طويلاً. وعادة ما يتوالد المتطرفون في أحضان القوى المسيطرة كبديل جاهز لها وخاصة عندما تصل لسلطة ما وتفقد “ثوريتها”، كما يدعون، في مناعم السلطة.
وكما زاودت حماس على فتح في مسألة العمل المسلح والتحرير التام من النهر إلى البحر مقابل حل الدولتين السلمي التفاوضي، والإسلام في مواجهة العلمانية الفتحاوية “الكافرة”، أتى من يزاود عليها في شعاراتها وبأكثر مما زاودت به، ليس فقط تحرير كل فلسطين بل تحرير العالم من الكفر، فجند أنصار الله فئة قليلة ولكنها ستنتصر بإذن الله، ستطبق الشريعة وتدحر إسرائيل والعالم بسهم واحد!!. وإذا وجدت مجتمعات في كواكب أخرى لم ترضخ ففرسانها جاهزون للفتح وقطع الرؤوس وترميل النساء!!..
حال قطاع غزة في ظل حماس محزن ومؤثر فأهاليها عانوا الامرين من الاحتلال الإسرائيلي وسلطة الأمر الواقع الحماسية والآن يضاف إليها الصراع الدموي بين أطراف ومنظمات الإسلام السياسي التي تذكر بالحرب الأهلية بين فصائل المجاهدين الأفغان على أنقاض كابول عقب الانسحاب السوفييتي، والتي أدت لخسائر بشرية ومادية أكثر مما أثناء الوجود السوفييتي. عسى أن ذلك لن يحدث لغزة إذ أن من حق أهاليها التمتع بالحياة والحرية بعيداً عن الاحتلال والتسلط على مقدراتهم من نفايات القرون الوسطى.
خاص – صفحات سورية –