ما يحدث في لبنان

لبنان: الرؤية والسلاح والحرب الأهلية الثانية

null

حسن منيمنة

إذا كان لا بد من الرسو على تفسير للحدث الذي أسقط لبنان في الهاوية، أي الهجوم الصاعق على بيروت ثم السعي إلى اختراق الجبل واللذين أقدمت عليهما قوات حزب الله، فإن المعطيات الموضوعية لا تسمح بافتراض سابق تصور وتصميم من أية جهة. بل ما يمكن ترجيحه أن أمين عام الحزب، حسن نصر الله، أصدر أوامره بالتحرك نتيجة لقناعة صادقة لديه، وإن كانت خاطئة، بأنه وحزبه وسلاحه مستهدف، وأن خطة القضاء عليه قد وضعت موضع التنفيذ، ودليله على ذلك القراران اللذان أصدرتهما الحكومة باعتبار شبكة اتصالاته تجاوز للسيادة اللبنانية، وبإقصاء رئيس جهاز أمن المطار لتسهيله المهام الرقابية لحزبه. ويبدو فعلاً أن هدف الحكومة كان المقايضة، أو أقصاه التصدي للقضم المتواصل للسلطة والسيادة والذي يثابر عليه حزب الله توطيداً لقدراته. فلا الحكومة تعمدت استفزاز نصر الله إلى حد الانفجار، ولا نصر الله وسائر المعارضة كانوا قد عقدوا العزم على التفجير. طبعاً، هذه القراءة لا ترضي المعارضة، والتي تصرّ على تخيّل المؤامرة الأميركية الإسرائيلية، الفاشلة دوماً بحكم عدم وجودها، ولا ترضي الموالاة، والتي تنسب إلى حزب الله ومن ورائه سورية وإيران سياسة تنفيذية متماسكة تتعدى المنحى الارتقابي الذي يفضله هذا الحزب وهذان النظامان، على أمل انتظام الظروف الدولية بما يتناسب ومصالحهم.

ولا ينفي التقييم القائم على سوء تفاهم أن المعارضة التي يهيمن عليها حزب الله كانت تستكمل التحضير فعلياً للحظة الصدام المرتقب، فيما الموالاة كانت مرتبكة بين ضرورة التحضير الموازي وعدم جدواه نظراً للتفوق غير القابل للتجاوز الذي استقر لحزب الله. فالصدام كان أمراً وارداً، بل نتيجة التفاوت الخطير في القوة والخلاف المبدئي في مفهوم الوطن، يكاد أن يكون محتماً، دون أن تكون مختلف الأطراف ترى بأن أوانه وشيك إلى هذا الحد.

والعوامل المساعدة لاتخاذ قرار اجتياح بيروت والجبل متعددة، منها اطمئنان نصر الله إلى استقرار صورته وشعبيته في العالمين العربي والإسلامي، بعد أن نجح إعلامه، وسائر الإعلام المعادي للولايات المتحدة في لبنان والعالم العربي، بإظهاره على أنه تجسيد للتصدي لإسرائيل وإنزال النصر الإلهي بها، وما يستتبع ذلك من شعور بالقدرة على الاقتصاص من أي تعدٍ على هيبته، ومنها اطمئنان بشار الأسد إلى أن تواصله وإن كان عبثياً وبالواسطة مع إيهود أولمرت يشكل تحصيناً مؤقتاً له، مما يتيح المجال أمام المزيد من الدفع لحلفائه باتجاه التعويض عن الخسارة الفادحة التي شكلها إرغامه على الخروج من لبنان. ومنها الحاجة الإيرانية إلى موازنة الخسائر الملحوظة في استثماراتها في العراق، بعد نجاح الحكومة المركزية في بغداد بتحجيم ظاهرة الفلتان الأمني الذي كان يشكل مدخلاً للنفوذ الإيراني. ولكن هذه العوامل لا ترتقي إلى مستوى الدافع المباشر، وتبقى القراءة الأقرب إلى الواقعية أن الأمور تفاقمت لغياب الثقة بين الأطراف اللبنانية المختلفة وافتراض متبادل لسوء النوايا.

وبقدر أهمية القراءة التي تسمح بإدراج الاعتداء الذي تعرضت له بيروت في خانة الحادثة غير المرتقبة وغير المقصودة من الجانبين، لما تسمح به من إيجاد أرضية تفاهم مشتركة في المرحلة التالية، فإنها لا تلطف واقع أن الاعتداء قد حصل، مع ما يستتبع ذلك من سقوط قطعي لمقولة طهارة سلاح حزب الله. وهذا الواقع يضع حزب الله في موقع دفاعي، بغضّ النظر عن انتصاراته الميدانية. بل في حال أتيحت الفرصة للآخرين بالتعبير الصريح، فإن طبيعة حزب الله نفسها تصبح عرضة للمساءلة. ذلك أنه يسعى جهاراً إلى جعل لبنان بأسره مجتمع مقاومة، وهو مسعى يناقض القناعات والمصالح لدى معظم خصومه وحلفائه على حد سواء.

وينطلق حزب الله في مسعاه هذا من الظلم التاريخي الذي ارتكبته إسرائيل بحق الفلسطينيين، ثم المنطق الاستقوائي الذي اعتمدته هذه الدولة المستحدثة على أراضي الغير إزاء دول المنطقة ومجتمعاتها، وصولاً إلى احتلال لبنان وتعريض أهله لشتى أصناف الأذى، وذلك إلى حين تحقق للمقاومة إخراج المحتل في ربيع العام ٢٠٠٠. وفي حين أنه ليس غريباً على إسرائيل أن تعمد إلى الاستيلاء على موارد الأراضي التي تحتلها، ومن بعدها على الأراضي عينها، فهذا كان منهجها في حروبها السابقة، إلا أن اعتبارات عدة ولا سيما المقاومة اللبنانية الحازمة بصيغها المتتالية، بالإضافة إلى الكثافة السكانية في لبنان وتبدل الأجواء الدولية بما يعترض هذا المنهج، أقنعت إسرائيل بأن احتلالها للأراضي اللبنانية لا يمكن أن يتحول إلى استيعاب واستيطان. فكان أن أمضت إسرائيل أعواماً طويلة في لبنان أسيرة معادلة عبثية منهكة وهي أن احتلال للبنان هو لدرء الخطر الناجم عن احتلال لبنان! ولكن، منذ انسحاب قوات الاحتلال عام ٢٠٠٠، انقلبت المعادلة ليصبح حزب الله أسيرها: فحزب الله يتمسك بالسلاح للدفاع عن لبنان إزاء الخطر الناجم عن تمكسه بالسلاح!

والواقع أن حزب الله، بعد تحرير الجنوب (باستثتاء المزارع، على خصوصيتها التاريخية)، بدلاً من التحول باتجاه مدني يحقق لجمهوره الأمن والازدهار ضمن إطار الوطن، قدم لجمهوره البدائل من موارده الخاصة (المجباة أساساً من إيران)، وتمكن في إطار هذا التقديم من توطيد ثقافة شمولية يصبح معها الحزب وقائده المرجع الأول في مختلف أوجه حياة المواطن الخاضع له. وقد مكنّه ذلك أن صعّد من جهوزيته العسكرية وبالغ في التصعيد، ليصبح آلة حربية ضخمة قادرة على مقارعة الجيش الإسرائيلي على أساس الندية، رغم التفوق الهائل لهذا الجيش بالعدة والعدد والعتاد. ولكن السؤال لبنانياً، فيما يتعدى إمكانية الاعتزاز بهذا الإنجاز، هو ما الجدوى، وبأي ثمن؟ هل الرغبة لدى حزب الله هي بإسقاط إسرائيل ودحر جيشها وتفكيك مستوطناتها وترحيل أهلها، أم هل هي استعادة المزارع والأسرى؟ فإذا كان الجواب هو إنزال الضربة القاضية بإسرائيل، فإن حزب الله لن يجد بين اللبنانيين الكثيرين ممن هم مقتنعون بقدرته أو موافقون على أهدافه. أما إذا كان الجواب مقتصراً على المزارع والأسرى، فالمزارع يمكن استعادتها دون إقحام الوطن بأسره في حروب شاملة مدمرة، والأسرى يمكن أن يعودوا دون أن يتهاوى الأبرياء بالمئات والألوف نتيجة إصرار كل من حزب الله وإسرائيل على إظهار قدرته على إيلام الآخر.

واليوم، وبعد أن أعلن أمين عام حزب الله أن أمن الأداة، أي السلاح، أمسى يتقدم على أمن المواطن، فإنه لا بد من وضع الإطار العقائدي لحزب الله موضوع نقاش وطني. أي لبنان يريده مواطنوه، لبنان المواجهة أم لبنان الاستقرار؟ لبنان السلاح أم لبنان الإنسان؟ إذ لا سبيل للتوفيق بين هذا وذاك، بشهادة أفعال حزب الله. ولا يمكن التعامل مع ما جرى، بعد التهدئة والانسحاب المفترض للمسلحين، حتى من باب المصالحة والتوافق، وكأنه بالإمكان العودة إلى ما قبل الخامس من أيار. فالقبول بمناصفة في المسؤولية عمّا حدث، أو القول بأن الحكومة بقراريها كانت البادئة وهي بالتالي تتحمل تبعات ما حصل، يوازي بين الخطوة الإدارية والاعتداء المسلح. وبعد أن تأكد الخطر، فإن الارتباك في صفوف الأطراف اللبنانية المختلفة إلى زوال، والسلاح سوف يستولد السلاح. وكما أن أمين عام حزب الله قد عجز عن الإيفاء بوعده حول عدم توجيه السلاح إلى الداخل، فإن غيره لن يتمكن من الالتزام بنواياه الدفاعية، بعد أن يستجمع الكافي من السلاح. فإما أن ينزع سلاح حزب الله، أو أن حوادث أيار ٢٠٠٨ سوف يسجلها التاريخ على أنها الجولة الأولى وحسب في الحرب الأهلية اللبنانية الثانية.

الحياة – 18/05/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى