مواقف سياسية من المعلوماتية!
ميشيل كيلو
يعتقد كثيرون أن علاقة الإنسان الفرد بالمعلوماتية ليست سياسية الطابع، رغم إيمان عدد كبير من الناس في مجتمعاتنا بأن المعلوماتية بدعة أمريكية هدفها إخضاع العالم عامة والعرب والمسلمين خاصة. ربما كمن تفسير هذا الإيمان في كره أمريكا والتوجس منها، وفي الخوف على الهوية، الذي يحمله كثيرون عندنا، ممن يرفضون التواصل مع العالم، بسبب تطوره الغريب، في نظرهم، الذي يضع أسس تنظيم كوني جديد يسمونه ‘العولمة’، تحفزه بقوة ثورة المعلوماتية والاتصالات، بما تحدثه بدورها من تغيير ملموس وسريع في عالمنا، الذي يتبدل تحت أنظارنا بين عشية وضحاها.
تنقسم الجهات المناهضة لثورة المعلومات إلى فئتين كبيرتين متناقضتين: فئة أولى ذات منابت وأصول تقليدية تخشى أن تكون ثورة لمعلومات حجابا تختفي تحته العولمة، عدو الهوية والأصالة، وفئة أخرى حديثة،علمانية الادعاءات، تخاف ثورة المعلومات والاتصالات أكثر مما تخاف العولمة، لاعتقادها أن الأولى تلعب دورا رئيسيا، لا سبيل إلى مقاومته، في تفكيك نظمها السياسية والثقافية/المعرفية. وبينما نجد الفئة الأولى في الأوساط الدينية، المعارضة غالبا للحال السياسي العربي/الإسلامي الراهن، نجد الثانية في الأوساط السياسية، وخاصة منها الحاكمة، الداعمة للأمر القائم والمسؤولة أساسا عن قيامه، والمناهضة للفئة الأولى، علما بأن الفئتين تقتسمان مواقف مشتركة أو متقاربة حيال تقاطعات ثورة المعلوماتية والعولمة، بما هي نتيجة من نتائجها، ترجع إليها اعتراضاتهما الشديدة، المشتركة أو المتقاربة، للنتائج العملية التي ترتبت عليهما، والمتجسدة، على ذمة الفلاسفة وعلماء الإنسانيات، في الحقائق التالية:
1- بروز دور الإنسان الفرد كصانع للواقع، المادي والمعنوي، الملموس والافتراضي. قبل ثورة المعلوماتية والعولمة، كان الإنسان صنيعة مجتمعه، ويتعين بواقعه المادي. أما اليوم، فهو يعين ذاته بذاته ككائن اجتماعي، لكنه لم يعد مجرد مرآة ينعكس مجتمعها فيها، بل اكتسب استقلالية واسعة عن بيئته ومحيطه، حتى أنه أخذ يعينهما كبيئة ومحيط خاصين به انطلاقا من فكره ورؤيته وممارسته. هذا الإنسان، الذي يعين واقعه، يتمتع بالضرورة بقدر من الحرية والإبداع يجافي تمام المجافاة أي قسر أو إكراه يوجه إليه أو ينصب عليه. وإذا كان اضطهاده يستهدفه كفرد، فإنه يقوض في الحقيقة والواقع الهيئة المجتمعية والدولة، بما أن صورتهما وأحوالهما غدت تابعة لوضعه، أي لقدرته على أن يكون فردا متفردا، وبالتالي مبدعا، ولتواصله الخلاق مع عقله وحريته، التي تفوق أهميتها أهمية أي شيء عداها، ومن غير الجائز أن يقيدها أي قيد، خاصة إن كان مما تمليه اعتبارات السياسة ويتصل بضرورات عليها أن تخضع لأولية الحرية وليس العكس. مع ثورة العلم والتقنية، وخاصة منها ثورة المعلوماتية، تحول الإنسان من ذرة في عالم إلى عالم قائم بذاته، يتوقف تقدم البشرية عامة ومجتمعه خاصة، على ما لديه من قدرة على استخدام مواهبه ومؤهلاته، التي رفعها تقدم العلم إلى مرتبة لا شبيه لها في التاريخ، ويجب أن تصير معيار السياسات، ومقياس التقدم: اجتماعيا كان أم اقتصاديا أم سياسيا أم عسكريا أم ثقافيا…. بهذا المعنى، يفضي تهميش الفرد وتقييد حريته، على يد نظم الاستبداد، إما إلى تقويض العالم المادي، وخاصة منه المجتمع والدولة، أو إلى الحكم عليهما بتأخر لا سبيل إلى تخطيه، دون تغيير سياسي يقر بأولية الإنسان الفرد على كل ما عداه، بوصفه الكائن المجتمعي – وإذن- السياسي بامتياز، الذي يجب أن توضع نظم السياسة جميعها في خدمة حريته وإنسانيته. هذه الحقيقة الجديدة تفسر خوف التقليديين من الإنسان الجديد، وخشيتهم من أن يحل محل ما يسمونه ‘المؤمن ‘، مع أن هذا ليس محتم الوقوع بالضرورة. كما يفسر خوف الحداثييين المستبدين منه، فهو الديناميت الذي سيفجر نظمهم وسيقوض أيديولوجياتهم وممارساتهم، بما أن مصدر وجوده – الحرية والإبداع – يتناقض تماما مع مصادر حياتهم ( القمع والإتباع ).
2- تبدل معنى الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، وتغير حجم كل منها ودوره في حياة الإنسان/الفرد. سابقا، قبل ثورة المعلومات وما ترتب عليها من تنظيمات وتطورات، كان الماضي هو زمان الوجود والعيش الرئيسي، وكانت فسحته كبيرة بالمقارنة مع راهنية وقصر الحاضر وغموض المستقبل. كان الإنسان قبل ثورة المعلومات يتعين بالماضي وبما يحمله من تراث وتقاليد وعادات، ويمثله من أشخاص ورسالات وقيم… الخ، في حين كان الحاضر ومضة قصيرة تقود غالبا نحو مجهول هو المستقبل. أما اليوم، فالماضي صار غائما ومتزايد القصر ومنصرما، بينما اتضحت صورة الحاضر واتصلت بالمستقبل، الذي يصير زمن الإنسان الحقيقي ووعده، وساحة أفعاله الرئيسية. وبينما كان الإنسان يعين حاضره ومستقبله على ضوء ماضيه، صار ينتج صورة الماضي انطلاقا من حاضره ومستقبله، وينتج حاضره في ضوء ما لديه من صورة عن المستقبل واحتياجاته المتعاظمة الحضور.
يفسر هذا جزع التقليديين على الماضي واستقتالهم في الدفاع عنه، بحجة أنه الساحة الوحيدة الموجودة أو الممكنة الوجود، للهوية وتاليا للدين. ويفسر كذلك خوف الاستبداد من تقلص قدرته على إبقاء المواطن خارج حاضره، واستعانته بالفئة التقليدية ومفرداتها، في كل ما يتصل بالماضي والوعي الماضوي، بل وتحالفه الأيديولوجي السري معها، وخوفه من أن يقلب تأثير الإنسان / الفرد على الحاضر والمستقبل معادلات السياسة، ويضع أسسا للتغيير ليس بمستطاعه مواجهتها من خلال أساليبه، وقد غدت ‘رجعية’.
3- تغير ثورة المعلوماتية معنى الواقع وتجعله واقعا للإنسان، بعد أن كان الإنسان فعليا خارجه معظم تاريخه، وللعلم، فإن واقع المعلوماتية شديد التبدل سريع التطور، من الصعب، إن لم يكن من المحال، إبقاؤه لفترة طويلة حبيس قوالب واحدة أو جامدة: مادية كانت أم أيديولوجية / معنوية. لم يعد الإنسان صنيعة الواقع، بل صار الواقع بدوره صنيعة الإنسان. ولم يعد الإنسان مجرد نتاج للنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بل صار النظام نتاجا له أيضا. وأخيرا، لم يعد من الجائز أن يكون هدف السياسة الرئيسي تنمية الواقع المادي، بل صار كذلك، وبالدرجة الأولى، تنمية الواقع الروحي للإنسان، الذي يرتبط تقدم الواقع المادي به ارتباطا لا تنفصم عراه، ويستحيل بدونه وقوع أي تقدم، في أي مجال من المجالات العامة والخاصة.
مع تبدل موقع الإنسان في العالم، وتبدل الواقع، وتغير معنى الزمن الإنساني، حدث تطور جوهري في مفردات ومضامين الوجود البشري، التي تبلورت خلال آلاف السنين الماضية، وانفتح باب جديد لمفردات ومضامين جديدة لوجود جديد، إذا كنا لا نعرف إلى أين سيقودنا، فإننا نلمس ما يسببه في حياتنا المعاصرة من ثورة تختلف عن كل ما سبقها، تؤسس لمدنية وحضارة جديدتين، نرى اليوم علاماتهما الأولى والجنينية وما تبعثه في حياتنا من دهشة وترقب مشوبين بالأمل، وفي حياة التقليديين والمستبدين من ذعر وخوف.
تقف البشرية على مشارف عصر جديد، يغلط المستبدون وأعداء الإنسان كثيرا إذا توهموا أنهم سينجحون في العبور إليه، من خلال ما في جعبتهم من أيديولوجية جامدة ومعادية للحرية، ومن وسائل قهر وقمع، تقتل الإنسان في أوطانهم، لكنها لن تفلح في نجاتهم من مفاعيل الثورة العلمية / التقنية، التي تقتلهم كل يوم، بتقدمها العاصف والخلاق، وبوضعهم خارج مسار التاريخ وحاجات مواطنيهم وشعوبهم.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي