المعارضة السوريّة.. ما الذي تبقى؟
أُبيّ حسن
ليس من الصعب أن يلحظ المتابع لحراك الداخل السوري, خفوت وهجه وفقدانه لألقه, مقارنة بما كان عليه مطلع القرن الحالي. الحراك الذي نعني, تزعمته المعارضة السوريّة, عقب خطاب القسم الأول, للرئيس بشار الأسد.
كان من شأن ذلك الحراك, الذي انطلقت شرارته, من الاعتراف بالرأي الآخر, الذي انطوى عليه خطاب القسم الرئاسي, أن شهدت سوريا عدداً من المنتديات المهتمة بالشأن العام, كمنتدى الأتاسي, والمنتدى الذي افتتحه في منزله النائب السابق(المعتقل, راهناً) رياض سيف, ولم يلبث الأمر طويلاً حتى كادت تنتشر المنتديات في مختلف المحافظات السوريّة, ما جعل بعض السلطات السورية(سنتذاك) تتوجس من ذلك الانتشار, ومن الطروحات والمواضيع التي تتم مناقشتها في هاتيك المنتديات. توجس السلطات, كان مفهوماً من زاوية ضرورة ضبط الشارع وإيقاعه بحسب وجهة نظرها, لا سيّما أن المعني به(الشارع) عايش عقوداً طويلة من الكبت.
عملياً, لم تكن تتطرق تلك المنتديات لقضايا من شأنها “وهن نفسية الأمة” أو “إضعاف الشعور القومي”, وسواها من أدبيات ذهب بموجبها عدد من الناشطين إلى السجن. وإذا ما توخينا الإنصاف, ومن بعد مضي قرابة الأربع سنوات على إغلاق آخر منتدى, ألا وهو منتدى جمال الأتاسي, نزعم أن تلك المنتديات وما انطوت عليها المحاضرات والنقاشات التي شهدتها, لم تخرج في سياقها العام عن الهمّ السوري شبه الجمعي في حينه(مع إدراكنا أن الهموم ليست ثابتة), وان كانت السمة الغالبة لمعظم محاضراتها ومحاضريها هي النبرة الحادة إزاء حزب البعث بشكل عام, والنظام بشكل خاص؛ وهو (على ما يبدو) ما غض المعنيون بالأمر النظر عنه في بداياته. وقد كانت قاصمة الظهر, عندما تبنى منتدى الأتاسي طرح ورقة عمل تخصّ جماعة الإخوان المسلمين المحظورة في سوريا, مافُهم في حينه تجاوزاً لخط أحمر من قبل المنتدى ما أدى إلى إغلاقه.
من البدهي أن تلك المنتديات ساهمت مساهمة جدية في إذابة ثقافة الخوف التي كانت, والحق يقال, المشترك الأبرز للمجتمع السوري طوال عقود. بيد أنه من الإنصاف القول أيضاً, انه لم يكن بمقدور تلك المنتديات تجاوز ما بدأت به, بغية الارتقاء بخطابها ومضمونه. من هنا, كما نعتقد, ظلت تدور محاور نشاطاتها حول أخطاء النظام والحزب الحاكم, إضافة إلى المطالبة شبه المستمرة بتوسيع هامش الحريات(التي كانت شبه مفقودة عملياً)؛ من دون أن يكون لديها رؤية مكتملة وناجزة, حول كيفية النهوض بالمجتمع السوري الذي أوهنه الكبت(في وقت سابق), ناهيك عن موروث ثقافي(عمره قرون) يفتقد رحمه إلى احترام الإنسان ككائن قائم بذاته, وهذا(الأخير) ما(كانت, وما تزال) تتغافله المعارضة ومثقفوها.
ولئن كان من الصحة بمكان نسب فضيلة كسر حاجز الخوف لتلك المنتديات(وهي مُعارضة بشكل عام), فإنه من الظلم تغافل رغبة النظام أو بعضه في المساهمة بمثل ذلك الكسر لهاتيك الثقافة, بدليل أن تلك المنتديات عملت ردحاً (يطول أو يقصر) من الزمن تحت سمع وبصر السلطات المعنية من دون أن تتدخل في آليات عملها وبرامجها.
ما سبق ذكره لا ينفي, حقيقة, أن بعض النظام وأجهزته, عملا على إضعاف المعارضة, من خلال زج ما عرف بأزهار ربيع دمشق في السجون, بيد أن المعارضة السوريّة هي من ساهمت أيضاً في إضعاف نفسها من دون أن تدري وتحتسب, إلى درجة بلغت معها من الضعف والوهن, حتى بالكاد بتنا نسمع لها خبراً!.
وقد بدت مساهمة بعض النظام في إضعاف المعارضة, عدا زجه لبعض رموزها في السجون, من خلال تبنيه لبعض شعاراتها, كمحاربة الفساد ومكافحته, وهو ما يقوم به النظام عملياً في فترات باتت متقاربة وتطال مراكز متقدمة نوعاً ما(حسن مخلوف, مدير الجمارك السابق, مثالاً), والعمل على توسيع هامش النقد وحرية التعبير عن الرأي, وهو أمر نعيشه حقيقة في سوريا بنسبة معقولة قياساً بالسابق.. الخ. يمكن أن نلحظ هنا أن تبني النظام لبعض شعارات المعارضة, يعني أن هذا الأخير قد تجاوز, معارضته بخطوات عدة.
في ما يخصّ إضعاف المعارضة لذاتها, يمكننا رسم ملامح مسار ذلك الإضعاف الذاتي, من خلال أمرين اثنين, تفرّع عنهما جملة أخطاء, على قاعدة إن الخطأ يولّد خطأ.
الأمر الأول: كائن, بحسب اعتقادنا, في تحالفها الذي نتج عنه إعلان دمشق 2005, وهو تحالف جمع ما هبّ ودبّ من أطراف معارضة, لا رابط بينها سوى الجنسية السورية والنقمة(بعضها يرتقي إلى مستوى الأحقاد الشخصية.. متى كانت السياسة تقوم على الأحقاد؟) على النظام. وقد بدا ضعف ذلك التحالف وهشاشة رابطه, بعيد انشقاق السيد عبد الحليم خدام, وتحالف الأخير مع الإخوان المسلمين, ومن ثم انشقاقهم عنه. هذه الانشقاقات, شبه المستمرة والمتغيرة, كان في ما يبدو لنا انه من الصعب على قوى المعارضة السورية(الداخلية بالدرجة الأولى) فهم طبيعتها بغية أخذ موقف واضح وناضج منها. وقل الأمر ذاته في موقف المُعارضة من تقلبات وليد بك جنبلاط!.
الملمح الثاني للإضعاف الذاتي للمعارضة, بدأ, عملياً(قبل الأول) بعيد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري؛ بيد أنه بلغ ذروته, عندما كاد أن يتماهى خطاب المعارضة السورية مع خطاب بعض رموز الرابع عشر من آذار, في أوج تحامل بعض تلك الرموز على سوريا قيادة وشعباً(قبل أن يميّز, بعض من نعني, تزلفاً, طبعا, بين الشعب السوري وقيادته التي يعارضونها).
تماهي خطاب المعارضة السورية مع بعض أقطاب الرابع عشر من آذار, تترجم عملياً في أكثر من محطة, منها على سبيل المثال لا الحصر, صمتها إزاء الحملات (والمؤامرات) التي كانت ترعاها بعض دول “الاعتدال” العربي ضد النظام السوري, وذلك الصمت لم يكن يقلّ في جوهره عن التواطؤ, لا سيما إن النظام السوري يبدو عبارة عن حمامة سلام ومملكة رحمة(حقيقية لا مجازية) مقارنة ببعض دول “الاعتدال”.
رحلة الهبوط الذاتي للعمل المُعارض في سوريا, تجلت في عجز المعارضة عن تجييش الشارع السوري في عدوان تموز 2006, والفراغ الذي تركته في الشارع ملأه النظام!. وقل الأمر ذاته في عجزها عن فعل شيء, حتى ولو كان رمزيّاً, إبان العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة!. وكذلك الأمر صمتها (المشبوه) على مسودة قانون الأحوال الشخصية التي أثارت سجالاً واسعاً في الأوساط السوريّة منذ فترة قريبة.
ومن اللافت للانتباه, أن النظام السوري, ومنذ فترة ليست بالقصيرة, يشيد ببعض المعارضة السوريّة, مسبلاً عليها صفة الوطنية؛ في حين لم تجد المعارضات السورية مجتمعة أية ايجابية في النظام السوري, حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر, بغية الإشارة إليها, ولو بطريقة غير مباشرة!.
عجز المعارضة السورية, ليس عيباً فيها. ومكمنه, ببساطة, شيخوختها (المبكرة), شأنها شأن قيادييها المتشبثين بـ”وهم” المناصب, في زمن بات من الملح والضروري طرح سؤال جوهري, ألا وهو: ما الذي تبقى من المعارضة (والأصح القول: المعارضات) السوريّة؟ وهل ماتزال تنطوي على طاقات, من شأنها أن تدفعها للمضي قدماً, أم ترى أن طاقاتها باتت كحال رموزها, إذ بلغت من العمر عتيا, ولم يعد لديها ما تعطيه؟.
كلنا شركاء