حكاية الثوابت عند الحركات والأحزاب السياسية
ماجد كيالي
يطيب للأحزاب والحركات السياسية الحديث دوماً عن التمسك بالثوابت والصمود على المبادئ، برغم تغيّر الظروف والمعطيات الموضوعية، وبرغم تأكل هذه الأحزاب وتراجع دورها، وانكشاف قصور أفكارها السياسية التأسيسية.
هكذا مازالت الأحزاب والتيارات القومية، مثلا، تصر على التعامل مع مسألة الوحدة السياسية العربية (وهذه تختلف عن مسألة الهوية العربية) بشكل يقيني، ودون أي مراجعة لقصور الفكر القومي في مسائل الديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان والأقليات، كما في مسألة السلطة والدولة، والموقف من الدولة القطرية.
وينطبق الأمر على الأحزاب الشيوعية التي مازالت تصر على شيوعيتها وطبقيتها، في واقع لم تعد فيه نظرية “فضل القيمة” تعمل وفق النظرية الكلاسيكية الماركسية؛ بحكم تطور العلوم والتكنولوجيا، وتحولهما إلى المصدر الأساس لمراكمة رأس المال. وأيضا في واقع لم تعد فيه الطبقة العاملة تلك الطبقة الأكثر عددا وتقدمية والأكثر مصلحة بالتغيير والقائدة للتاريخ؛ لاسيما أن الفئات الكادحة في واقعنا العربي هي الأكثر ممانعة للتغيير، بسبب تدني مستوى وعيها، وانصرافها إلى تحصيل لقمة عيشها، وبحكم خضوعها لنوع من الأنظمة الشمولية. كما أن هذه الفئات في ظل ما تعانيه من فقر في الوعي وضعف حيلة في مواجهة أمورها المعيشية باتت مرتعا للعصبيات المذهبية والطائفية والقوى الظلامية والمتطرفة. والأنكى من ذلك أن السلطات القائمة، والأحزاب السلطوية، باتت تعتمد على هذه الفئات للحفاظ على ثباتها وثوابتها، ومناهضة مسارات التغيير والتحديث في السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، التي تعمل بقوة دفع موضوعية (بحكم التطورات العلمية والتكنولوجية والاقتصادية)، وبحكم مسارات العولمة، وبقوة دفع من الفئات الوسطى الصاعدة.
وفي الساحة الفلسطينية، التي تمر بمرحلة تحرر وطني، تبدو مسألة الحفاظ على الثوابت والصمود على المبادئ والتمسك بالمنطلقات بمثابة معزوفة أثيرة لدى الفصائل السائدة، وهو ما أكده مؤتمر “فتح” السادس، الذي عقد في بيت لحم في الضفة الغربية المحتلة. فقد أكد الرئيس أبو مازن وهو قائد هذه الحركة، ورئيس السلطة ورئيس منظمة التحرير، كما أكد غيره من أعضاء المؤتمر، تمسك حركتهم بالثوابت والمبادئ والمنطلقات التي تأسست عليها فتح منذ انطلاقها عام 1965.
على ذلك فإن الحديث عن الحفاظ على الثوابت والمبادئ والمنطلقات الأولوية، عند التيارات والحركات والأحزاب السياسية، رغم كل المتغيرات الموضوعية، ورغم كل القصور والتقادم فيها، يبدو في الوهلة الأولى نوعاً من مكابرة، وعناد، أكثر من كونها نوعاً من إرادوية ثورية، التي هي من صفات الأحزاب الراديكالية، التي مازالت في بداية طريقها النضالي، أو مازالت تحافظ على طاقتها الكفاحية، وهي صفة لم تعد تتمتع بها غالبية الأحزاب والتيارات والحركات السياسية السائدة في البلدان العربية.
بمعنى أخر فإن الحديث عن الثوابت والمبادئ والمنطلقات يتم على الأغلب لمجرد الاستهلاك، وكنوع من فولكلور، وللتورية على السياسات الحقيقية التي يجري انتهاجها. فالأحزاب الاشتراكية والقومية والوطنية/الشعبوية، عندما باتت في السلطة، أو حققت وضعا سلطويا، سارت في الطريق الرأسمالية، وبنت سلطتها القطرية، وفرضت علاقات تسلطية، عمادها القوة، بدلا من العلاقات الديمقراطية مع الشعب.
هكذا فإن “فتح” مازالت تؤكد تمسكها بثوابتها ومبادئها ومنطلقاتها الأولية، رغم أنها سارت في خيار التسوية عبر المفاوضات، بعد أن كانت تتوسل المقاومة المسلحة لتحقيق أهدافها، ورغم أنها تحولت من حركة تحرر وطني إلى سلطة (تحت الاحتلال)، ورغم أنها انتقلت من هدف التحرير لكل الوطن إلى هدف إقامة دولة على جزء من الوطن، ومن مجال الصراع مع إسرائيل إلى مجال التعايش معها!
ومعلوم أن “فتح” أسست شرعيتها وتنسمت موقعها في قيادة العمل الوطني، بسبب من مبادرتها للمقاومة المسلحة ضد إسرائيل، وبعثها الهوية الوطنية الفلسطينية، وتمسكها باستقلالية القرار الوطني، وكونها حركة تمثل كل أطياف الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده. وفي تفحص توجهات فتح الحالية سنجد أن الهوية الوطنية ووحدة الشعب معرضان لخطر التقسيم أو التبديد، وأن القرار الوطني الفلسطيني بات مرتهنا للإرادة الدولية (والإسرائيلية بمعنى ما)، أما المقاومة المسلحة فلم تعد في الوارد، وباتت خروجا على “الشرعية” أي شرعية السلطة، وباتت حقوق الشعب الفلسطيني مختزلة في مجرد دولة محدودة في الضفة والقطاع (على الأكثر)، برغم الحديث عن التمسك بحق العودة للاجئين، وفق القرار 194؛ وهو حديث نظري وللاستهلاك السياسي. فإذا كانت هذه الحركة تعتمد التفاوض والتفاوض كبديل للتفاوض من اجل الحقوق الوطنية، فكيف ستقنع إسرائيل بحق العودة للاجئين؟ وإذا كانت قيادة هذه الحركة تحصر نفسها في خيار الدولة في الضفة والقطاع، فكيف ستجلب دولة وحق عودة للاجئين في آن معاً، وبالتفاوض فقط؟!
ويستنتج من ذلك أن ثمة نوعاً من انفصام في شخصية الحركات والأحزاب السائدة، كما بين الأطروحات النظرية والسياسات العملية التي يجري انتهاجها.
طبعاً ليس القصد من هذا الكلام طرح أمور تعجيزية، أو المزايدة على القوى السياسية المعنية، وإنما القصد التأكيد على ضرورة تخليص هذه القوى من ادعاءاتها النظرية/الشعاراتية، وتحرير خطاباتها من الجمود الذي يعتريها، ووضع حد لنهج الاستخفاف بالعقول والمشاعر، والتعود على توجيه خطابات واضحة للجماهير.
ومعنى ذلك أن تغيير الخطابات وتطوير المقولات وإغناء الطروحات السياسية ليس شيئا معيبا في العمل السياسي، فالمعيب والمضر هو البقاء عند حيز الخطابات العاطفية والشعاراتية، والمعيب والمضر هو بث الأوهام والنزعات الإرادوية، بغض النظر عن موازين القوى والإمكانيات، والخطير والمضر هو المبالغة في المراهنات على خيارات معينة، أو التمترس وراء قناعات ثبت عقمها.
وبشكل أكثر تحديدا فإذا ثبت بأن خيار تحرير فلسطين لم يعد ممكنا في هذه الظروف والمعطيات والموازين، فإن البديل عن ذلك ليس الانحصار بهدف دولة في الضفة والقطاع، لاسيما أن هذا الهدف بدوره لم يثبت جدواه منذ تبنيه قبل حوالي 35 عاما، وإنما طرح معادلات سياسية أخرى تفضي إلى التحرر، من نوع الكفاح من اجل إقامة دولة واحدة في فلسطين، دولة ديمقراطية علمانية لمواطنيها أو دولة ثنائية القومية، أو دولة كونفدرالية، لطرح هذا التحدي على إسرائيل. وإذا كان ثمة معضلة في مواصلة طريق الكفاح المسلح لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وإذا كان هذا الشكل من الكفاح تمت ممارسته بطريقة فوضوية مضرة، فإن البديل عن ذلك ليس إنهاء كل أشكال المقاومة من الناحية العملية، والحديث عن استخدام كل أشكال النضال من الناحية النظرية فقط؛ فثمة أشكال شعبية مدنية كان الفلسطينيون ابتدعوها وتمثلت في الانتفاضة الأولى، بمعنى ان البديل عن شكل نضالي يحتم شكلاً نضالياً أخر، لا النكوص عن مواصلة النضال لصالح عملية تفاوضية، غير ندية، وثبت عقمها.
وبقول أخر فإذا كانت التجربة العسكرية الفلسطينية بحاجة لمراجعة ونقد وترشيد فإن التجربة التفاوضية، بما في ذلك تجربة القيادة في العمل والإدارة والقيادة (داخليا وعلى صعيد الصراع مع إسرائيل) هي أيضا بحاجة ماسة لمراجعة ونقد وترشيد وتطوير. هكذا فإن المسألة لا تكمن فقط بالتغيير، وإنما بحيثيات هذا التغيير، أي بمضامينه واتجاهاته. بمعنى هل هي في اتجاه حركة التاريخ وتخدم في استعادة الحقوق ووحدة الشعب وتحقيق العدالة (ولو النسبية)، أم تساهم في عكس ذلك، أي بالخضوع لضغط الواقع (وضغط العدو) وبالتالي النكوص عن النضال من اجل التحرر والحق والعدالة.
وخلاصة الأمر فإن الحركات والأحزاب الراديكالية تتغير أيضا، وحتى أنها تتغير من دون وعي أصحابها، وربما برغم إرادتهم، فهي تتغير بدفع من الظروف والضغوط الموضوعية، وبحكم ثقل المسؤوليات السلطوية التي تدخلها، وأيضا بسبب تولد مصالح وعلاقات جديدة، تنبثق عنها رؤى أفكار سياسية أو سلطوية جديدة أيضا. وكل ذلك لا يمنع ولا يلغي الاستمرار بالحديث عن الثوابت والمبادئ ولكن كبنية فوقية وكديكور نظري فقط.
المستقبل