الاستخدام المُفرَط للتاريخ في الأجندات السياسيّة
آزاد أحمد علي
من أبرز مساوئ الثقافة السياسيّة في منطقتنا شرق الأوسطيّة هو توظيف المعلومات والمعطيات التاريخيّة لتخدم أجندات سياسيّة وفكريّة محدّدة. إذ بالغ عددٌ من علماء الآثار والمؤرّخين في اجتهاداتهم التاريخيّة تماشياً مع نهج بعض المدارس الاستشراقيّة في تطويع التاريخ وتحويره،لصالح مشاريع ومفاهيم سياسيّة وفكريّة خُطّط لها مسبقاً؛ فعلى سبيل المثال بالَغَت المدرسة التوراتيّة في التركيز على الماضي التّاريخيّ لليهود في فلسطين، وضخّمت من أهمية الممالك العبرانيّة التي ظهرت فيها، وكذلك ربطت بشكل ميكانيكيّ وتعسفيّ بين “حقّ” إنشاء وطنٍ لليهود في المنطقة وتلك الممالك اليهوديّة أو العبرانيّة البائدة. وكان من أولى نتائج هذا التوجه الخرابُ الذي حلّ بالواقع السياسيّ في المنطقة، وراح ضحيّته شعب بكامله، وعدم استقرار سياسيّ مستمرّ منذ أكثر من نصف قرن من الزمان. وفي الجانب الآخر تراجعت دقّة المعلومات ومستواها والحقائق التاريخيّة على الصعيد النظريّ والمعرفيّ الصرف. وكاتجاه موازٍ للدراسات التوراتيّة ظهرت مدارسٌ تاريخيّة وأثريّة أخرى في المنطقة، منها مدرسة الدّراسات الرافديّة والآشوريّة على نطاق أضيق، التي بالغت هي الأخرى في أهمية التراث الآشوريّ وضخّمته ليطغى على تراث وتاريخ مناطق وشعوب الجوار.
وأغلب هذه المدارس تعود بجذورها إلى مطلع القرن التاسع عشر، حيث لم تكن المعارف التاريخيّة قد اتّسعت وتجاوزت إلى أبعد من زمن الإغريق، لذا فإنّ كافة الأساطير والمعارف التاريخيّة القديمة كانت تُنسَب إلى الروايات الدينيّة وسرديّات الكتب المقدّسة، وتنهل من مصادرها، وتدور في فلك أيديولوجيتها وتصوّراتها لبداية الخلق وتعاقب الأمم ودرجة أهمية الشعوب والأعراق وبالتالي الممالك البائدة.
اتبعت هذه المناهج البحثيّة الاستشراقيّة ذات الجذور الدينيّة والأسطوريّة دراسات تاريخيّة ذات منحىً قوميّ (عربي، تركي، فارسي، كردي، الخ …) وحاولت أخذ نسغ مشروعها القوميّ السياسيّ من مشروعيّة تاريخيّة تحاكي بصيغة أو بأخرى المشروع التوارتيّ أو تعاكسه، أي استعارات منهج الأحقيّة والأسبقيّة التاريخيّة من المدرسة التوراتية، دون أن تدري أن المنهج ينطوي على مغالطة كبرى؛ فحقوق البشر والشعوب لا تؤخذ حسب الأقدميّة، ما أفضى إلى تعقيدات وتشابكات علميّة وسياسيّة جديدة ملخّصها أنّ كلّ شعب من شعوب المنطقة يجاهد لتأكيد قدمه وأحقيته التاريخيّة في السيادة على الأرض المتوارثة من شعوب قديمة يُفترَض أنّها الجَدّ والوارث الشرعيّ لها، سواء كانت هذه المجموعة البشريّة مهاجرة أو مُستقدمة إلى المنطقة. هذه المنطقة التي تتّصف بالتنوّع واحتكاك الثقافات وتبدّل الهويات وتفاعلها منذ العصور الحجريّة.
ما نودّ قوله باختصار في هذا السياق أن هذا المنهج العلميّ ـ المعرفيّ في قراءة التاريخ وتوظيفه سياسيّاً قد ولّد نتائج وخيمة؛ أولها سيادة العقليّة الأبويّة التي تؤمن بالنسب الافتراضيّ، أي بانتماء بعض الشعوب الحالية لشعوب ومجموعات أثنيّة بائدة، وحقّها في توريث أرضها المفترضة، وبالتالي حدوث مفاضلة بين أبناء شعوب المنطقة بدعوى الأحقيّة والمشروعية التاريخيّة في السيادة السياسيّة على جغرافيّة راهنة، واستبعاد حقوق الإنسان الرّاهنة والمشخّصة على أرض الواقع المعاش.
وثانيها تنامي ثقافة الإقصاء المخدوعة بأوهام الأساطير التاريخيّة، حيث يفترضُ كلُّ طرف أنّه الوريث الشرعيّ والوحيد لشعب ما كان يحكم هذه الأرض لفترة ما، وعلى الآخرين أن يكونوا مجرد أتباع أو ضيوف، وكحدّ أقصى مجرّد أبناء لجاليات مهاجرة يتمّ استضافتهم على الأرض الموروثة عند الضرورة!
وثالثها تراجع مفهوم المواطنة المعاصرة للبشر، الذين ينتمون لجغرافية ووطن قائم، لصالح الانتماء لسلالات ومجموعات أثنيّة، أصيلة عرقيّاً ومنتخبة أيديولوجيّاً، سكنت الأرض قبل غيرها.
أي أنّ هذه الاتجاهات البحثيّة وما اشتقّ منها من أفكار وآراء ومواقف سياسيّة قد أضرّت بالمعرفة التاريخيّة وبالتفاهم السياسيّ والتعايش الاجتماعيّ على أرض الواقع على حدّ سواء.
وبدلاً من تلك القراءات اللاعلميّة، ينبغي تناول التاريخ بصفته حقلاً معرفيّاً قائماً بذاته، يمتلك مناهج بحث صارمة، تستند على الوثائق المدوّنة وتعتمد المخلفات الأثريّة من نصوص و لقى وأشكال فنيّة ورموز. وهذا العلم يتطوّر ويتّسع ويعيد تصحيح معارفه وصياغاته الأخيرة، وهو مفتوح على كل الافتراضات والاحتمالات. كما أنّ التاريخ مساحة حقيقيّة مشتركة لكلّ شعوب المنطقة، ونبعٌ ثقافيّ لكلّ أبنائها، وليس فقط لأحفاد مُفترَضين. فالتاريخ الحقيقيّ المشترك يؤسّس للتقارب والتفاهم وملامسة الجذور الحضاريّة الواحدة لكلّ سكان المنطقة.
لذا لا بدّ من السعي للتأسيس لمعرفة تاريخيّة موضوعيّة، والاشتغال على دراسات وأبحاث خارج الإسقاطات السياسيّة وتأثيراتها الفكريّة والأيديولوجيّة، وذلك لتحويل الحقل التاريخيّ بكل ما فيه من آثار وتراث وثقافة وفن ومرويّات إلى مساحة مشتركة، ونقطة للتلاقي ووسيلة للتخلص من الإقصاء والاستعلاء والتعصّب القوميّ والدينيّ.
وينبغي لتوفير مثل هذا المناخ التمهيد العلميّ الموضوعيّ لظهور حقائق جديدة موثّقة؛ حقائق ومعارف تبيّن بأن تاريخ منطقتنا من الغنى والتنوّع بحيث تشجّع على الاعتقاد بأنّها تاريخ لكلّ بني البشر، وهي تكشف عاما بعد آخر أنّ بدايات تكوّن المجتمع الإنسانيّ المنظّم بأفضل صيغه وإشراقاته كان في منطقتنا.
وتعقد الآمال على أنْ تتنامى الاتجاهات البحثيّة التي تجعل من المعرفة التاريخيّة طريقاً لتلاقي البشر عند منابع الحضارة الأولى، ووسيلة للخلاص من التعصّب والإقصاء والعيش في ظلّ الأوهام والأساطير الكبرى. والسبيل المختصر إلى ذلك يعتمد على درجة عمل واجتهاد كلّ المشتغلين في الحقل التاريخيّ والفكريّ، القادرين من جعل المعرفة التاريخية مدخلاً لتأمين حياة أكثر تفاهماً وتنويراً وإشراقاً لكلّ أبناء المنطقة، الحاضرين اليوم وأبنائهم مستقبلاً. وهو تالياً ما يعقد الرهان عليه لتخليص السياسة من سطوة التاريخ ومتاهاته، فمن غير المقبول الربط بين الحقوق السياسيّة المعاصرة ومشروعية الجذر التاريخيّ لأيّة شريحة اجتماعيّة، بصرف النظر عن عمق أو طول هذا الجذر. فآخر ما يمكن قياس الحقوق السياسيّة وحقوق المواطنة عليه هو التاريخ نفسه، في منطقة تمتلك خاصية الاضطراب والتفاعل منذ عشرة آلاف سنة على أقل تقدير. وليس من الضروري لتأمين الحقوق السياسيّة والمدنيّة لأيّة مجموعة بشريّة أو أفراد أن يكونوا من سلالة شعوب بائدة كانت متواجدة -حقيقة أو وهماً- منذ أكثر من خمسة آلاف عام!
الاستخدام المفرط للتاريخ لم يساهم في إيجاد الحلول الموضوعيّة لقضايانا السياسيّة بل يدفع بها نحو التعقيد و يؤذي التاريخ والسياسة والحقوق المدنيّة جميعاً.
()كاتب وباحث سوري