صفحات ثقافية

«شــاش بــاش».. عمــارات الوهــم

null
عباس بيضون
أن يكتب ثلاثة ويخرجون مسرحية «شاش باش» أمر فريد إذا قسناه بالنتيجة، إذ غالباً ما يرخص الكاتب والمخرج الواحد في مسرحنا لنفسه أن يسترسل على هواه وأن يرقّع العمل بكل ما يخطر له، ويشرد عن النص كما يريد، ويدخل عليه من جنسه وغير جنسه ويتوسله لكلام ذاهب عرضاً وطولاً بلا أول ولا آخر، حتى يمكن القول ان دارج مسرحنا من الناحية لا يرى في العمل المسرحي سوى دينامية مسرحية وعرض مفتوح وقل ما يرى فيه عملاً ذا شكل، ونصاً واحداً. مناسبة هذا الكلام هو تعجبنا من أن تكون «شاش باش» بثلاث أيد ويكون لها ذلك التركز والتراص والحفر والتوليد في الفكرة إياها والبؤرة نفسها. نتعجب من أن تستطيع ثلاث أيد أن تخلق عملاً بهذه الوحدة والسبك والتقصي لمخيلة خصبة ومركزة.
نتعجب من أن يتم ذلك في مسرح غير متطلب من هذه الناحية، متساهل ومستسهل فيها إلى حد تضييعها وإلى حد فقدان أي خيط جامع وأي سياق وفي أحيان كثيرة أي معنى. واستدعاء كليشيه مسرحي ومظاهر مسرح بدلا من إنتاج أثر فعلي. بثلاث أيد انتج ثلاثة شبان جدد تقريباً واحدة من نوادرنا المسرحية، أي عملا يملك من اللحظة الأولى قامة مسرحية وبدون ان يكون هذا بحد ذاته حكما. أنتج الثلاثة ما يمكن اعتباره أكثر من «مسرحة». أنتجوا مسرحية فعلية. هذا لا يشكل بحد ذاته حكماً. لقد استحقت المسرحية اسمها هذه المرة، وجد العمل والبنية والشكل، قد تكون هذه مجرد بداية، لكن التبعثر والسيلان والهلهلة ضمن عروضنا (التجارية وغير التجارية غالباً) ليست عرضا. انها تقريباً عامل بنيوي. إذ ليس ذلك تأخراً ثقافياً فحسب، بل هو، فضلاً عن ذلك، نتيجة لسيادة ثقافة غير حوارية في الأساس. انه في أحيان كثيرة مظهر مقاومة للمسرح. وربما يكون فقط انعدام معنى وانعدام رؤية والكتابة والعمل بدون تطلب من هذا النوع، فنقع كل مرة في الحساء الثقافي إياه، وفي تكرار غير ملحوظ لكليشيه من أي نوع، ايديولوجي أو حداثي أو مسرحي. في النهاية نقع في «انشاء مسرحي سيّال. تغدو المسرحية «مثلا» أو تمريناً مسرحياً، يمكن ان نتكلم بساطة عن ترد متزايد، معظم ما نراه لا يقول شيئا آخر. لذا نتعجب من أن تنتج ثلاث أيد عملاً ذا خصوصية وبنية وحدود وعمق وشكل، نتعجب وليست المرة الأولى التي يمنحنا فيها شبان المسرح هذا الأمل بأن المسرح لا يزال ممكنا.
هذا ليس حكماً. شاش باش بارعة بدون شك، لكن البراعة ليست كل شيء، بل ان البراعة التي تكتفي بذاتها قد تغدو هي الأخرى مجرد مديح للفن، وفي أحيان كثيرة قد تكون استعراضا فوق طاقة الفن الذي يتظاهر دائماً، بأنه متواضع امام الحقيقة وانه يسعى إلى إيجاد بداهته وحقيقته الخاصتين. مع ذلك نشهد للبراعة والجهد على الاستسهال والسيولة. شاش باش بارعة، مع ذلك يشي مشهدها الأول بسؤال صادم، هل يمكن قتل الطفل الاسرائيلي. انه سؤال ليس في المسرحية ولا نفهم لماذا طرح في مدخلها وإلى أي حد يمكن ان تكون جوابا عنه. انه سؤال واقعي فإلى أي حد سيجد جوابه في ما بعد الواقع الذي هو فضاء المسرحية. سؤال واقعي فهل سيجد جواباً شعرياً أو يجد معادلاً شعرياً، كأن يطرح في المسرحية بصيغة أخرى. مع ذلك يكفي الاستهلال به للإيعاز بأن المسرحية ليست فقط في الوهم. انما يمكن ان تكون، على نحو آخر، واقعاً.
لا نستطيع أن نجد في الصورة لا الفكرة الأم التي تبدأ منها المسرحية (حمل الظل في حقيبة لرميه في برميل الزبالة) الا شيئا من كد الخيال وربما من افتعاله، لكن الصورة لا تلبث ان تغدو مختلفة حين تليها لعبة خيال حر وطري تذكر من بعيد بالبداهة الشعرية لجورج شحاده. الزبالون أرواح أو ظلال وما يتحرك قبعات وقفازات وأثواب خالية. من اللحظة الأولى ندخل في مجاز متواصل. الزبالون ليسوا الزبالين والزبالة ليست الزبالة والظل الذي في الحقيبة ليس سوى ذريعة. فنحن حقا في مملكة الظلال وهذا الزبال المتلعثم ينطق عنه ظله. هنا سيكون هو وظله شيئين مختلفين وسيكون بين الظل وأصله تفاوت ومفارقة ونزاع. الواضح ان الأشخاص عابرون فالحياة كلها للظلال التي ما إن تنفصل عنهم حتى تبدأ لعبتها الخاصة. ليسوا سوى نُسَخ ظلالهم، ظلال ظلالهم إذا جاز الأمر، وهم يبحثون عن أنفسهم الضائعة لدى هذه الظلال.
لا أعرف إذا كان هذا هو المقصود. انه استرسال فحسب، الجزء الأول هو رغم أثيريته ودورانه في عالم الصور البحتة، لا يزال يذكر بالبداهة الشحادية، يبني من حلم يكاد يكون حقيقياً، انه عالم مسحور لكنه ليس مطلسماً. عالم من الصور التي تصيب أكثر من الوقائع، لكننا مع ذلك في الظن والمخيلة والكلام بالصور. صور مصنوعة بالكلام لكن أيضا بالحركة والأداء والسينوغرافيا، فهذه الثلاث تحضر في اللحظة نفسها، وتركّب في الوقت ذاته وتندمج في أداء واحد، هنا لا نبالغ إذا قلنا اننا في الشعر، وشعر قوي في غالب الأمر، إذ ثمة دائماً سياق آخر وعلاقات أخرى، هنا يتكون عالم من تحويل مستمر ويكوّن من اللحظة الأولى بانتظام فضاءه وإشاراته وعمارته الخاصة. لكن الظلال تنتج الظلال، والصور تتحول إلى نسخ اصلية لتتولد على فرعها ومنها صور أخرى، والبداهة الاولى تتحول شيئا فشيئا إلى دواخل اضافية وإلى تركيبات وإلى مزيج ثان وثالث. تباع الظلال بالذكريات في سوق الظلال، ثم تحضر الدمى التي هي ايضا ظلال عملاقة مجسمة، وتحضر المرايا التي هي ايضا مسكن لظلال أخرى. ثم تكون الظلال المقلوبة والمقطوعة والمركبة من رأس ليس بجسده أو جسد ليس لرأسه. ما يبدأ قويا يقوَ باستمرار. ما ينشأ من صورة يركّب منها وعليها ويصل بها إلى حد الاستنفاد. توليد على توليد، صور على صور، وهم من وهم. اشباح مركبة وظلال أصلية ومستنسخة ومصنوعة.
مع ذلك لسنا هنا في هذيان بحت، لسنا البتة في السيولة الفالتة، اننا في التركيب والبناء والنمو بحساب ولبنة لبنة. اننا أمام عمارة من الوهم لكنها عمارة. أمام طبقات من الصور، وفي كل الأحوال نجد الشعر والحكي والرقص والدمى متكاملة مندمجة على نحو لافت. نجد في النهاية الإحكام والقوة والجنون المحسوب. نتذوق الكلام والصور والحركات، لا شك في اننا أمام عمل بارع.
لكننا نعود إلى الأول، اين هو الجواب عن السؤال الأولي. أهو في لعبة الظلال البورخسية، في لعبة المرايا، في انشطار الأنا والأنا. الآخر والآخر. لا أريد أن أجد تفسيراً لكني أشك في انه قيل. اذ عدت إلى الأول سأقول انني أخشى أن العمل انحبس في عمارته. ان قوته عزلته، ان كماله (اذا جاز التعبير) غلبه. سنخرج من العمل مخطوفي الأنفاس، سنحس ان كل لحظــة فيه كان فيها قدر من مخيلة وابتكار. كل حركة كان لها ما يقابلها ولم نقع أبداً على أي مجانية. هذا الصحيح فالعمل عامر بالجهد والذكاء والموهــبة ايضا. مع ذلك أخشى ان يكون عمل إيلي يوسف وفؤاد يمين ومارلــيز بلا نــوافذ وان تبتلعه قوته. نسيت ان أقول ان شاش بيش غلبــتني. فأنــا، صدقا، لا أحب هذا النوع من الشعر.

ملحق السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى