صفحات العالم

نظامان وانهياران

null
ميشيل كيلو
بعد انهيار النظام الاشتراكي السوفييتي في روسيا وبلدان أوروبا الشرقية، وانتصار الرأسمالية الأمريكية، التي لم تمر بحقبة نهضة أو تنوير، وافتقرت دوماً إلى أية نزعة إنسانية، وبعد الاحتفالات الأيديولوجية بنهاية التاريخ، التي أقامها مفكرون أمريكيون، واعتبروها نهاية الفلسفة والتأمل الفكري والتقدم الإنساني غير الرأسمالي، وكذلك نهاية شرعية أي تطلع بشري نحو العدالة والمساواة، انهار النظام الرأسمالي المنتصر، الذي وضعه أنصاره فوق التاريخ واعتبروه نظاماً سيلازم الإنسانية إلى الأبد، لخلوه من عوامل التحلل والتفكك وصموده أمام عيوبه وأخطائه ونواقصه، فهو نظام لا بديل له، لشد ما رتعت البشرية في نعيمه المقيم، ونعمت بخيراته وعدالته ومساواته وحرياته، واقتنعت أخيراً أنه ليس هناك عدالة غير رأسمالية، ومساواة لا تتفق مع مصالح رأس المال، وحرية ليست من ابتداعه أو إنجازاته، وأن مثالية الروح الرأسمالية هي التي أبدعت المعرفة والعلم والتقدم والرفاهية، من أجل الإنسان .
لم يعش هذا الخطاب طويلاً، فالرأسمالية التي قيل إنها أول وآخر النظم، واجهت فجأة أزمة هيكلية أطاحت بمزاعمها جميعها، وفي مقدمها الزعم بأن التاريخ لن يتخطاها لأنها نهايته . وقد بدأ كبار قادة الدول الرأسمالية يبحثون بيأس عن حلول لأزمة مالية كان يقال إلى ما قبل أشهر إنها علامة على حيوية وديناميكية الرأسمالية، فإذا هي الآن مصدر مشكلات هيكلية تتطلب إعادة نظر جذرية في أسس وركائز وآليات اشتغال النظام الرأسمالي برمته، بعد أن دخل في لحظة بدا معها وكأنه يندفع بقوة لا تقاوم نحو هاوية قاتلة، مذكراً بأجواء قاتمة كان قد واجهها في ثلاثينات القرن الماضي، أعلن بعدها أنها لن تتكرر وأن الرأسمالية لم تعد تنتج الأزمات، أو أن لديها من آليات الضبط والتحكم الذاتي ما يمكنها من أن تصحح من دون تدخل أي انزياح عن مسارها . بينما الدولة، التي كان ممنوعا عليها التدخل في عمل النظام الاقتصادي، لأنه يكون على خير ما يرام في ظل أقل قدر من تدخل الحكومة (الرئيس الأسبق رونالد ريغان)، انقلبت فجأة إلى منقذ بادر لشراء عجز وديون الشركات الكبرى، حوامل رأس المال، التي شرعت تتهاوى كبيوت من ورق . وبما أنها – الدولة – لم تملك مبالغ المال الخيالية، التي تطلبها إيقاف الشركات والمصارف على أرجلها، فإنها مدت يدها مرة أخرى إلى أموال الشعب، بالأصح إلى جيوبه، ضاربة عرض الحائط بحقيقة ساطعة، هي أن أحد أسباب الانهيار كمن في قلة ما في يد الشعب من أموال، وإلا لتمكن من تسديد أقساط المنازل والعقارات التي كان قد اشتراها من مصارف أفلست، لكنه أجبر على دفع ثمن فشلها وتكالب مديريها ومستشاريها على نهب جسدته مليارات الدولارات التي حصلوا عليها في صورة مكافآت قبضوها، حتى بعد أن تبين دورهم في سوق الاقتصاد إلى الهاوية .
ثمة نتائج محددة ترتبت على الأزمة، منها:
– أن العالم شهد لأول مرة في تاريخه، وفي مهلة زمنية قصيرة لا تتجاوز عشرين عامين، انهيارين كبيرين، أدى أحدهما إلى اختفاء المعسكر السوفييتي ونظامه “الاشتراكي”، وثانيهما إلى إفلاس الشكل التقليدي، الليبرالي وغير الحكومي، من الرأسمالية، مع ما نجم عنه من مآزق تستدعي تحولات هيكلية تطاول بنية نظامها ذاته، الذي يرجح العارفون أنه سيتخبط لفترة طويلة قبل أن يستقر على حال جديدة، ستنهض على ركائز ثلاث: أولها حكومة تدخل ذات صلاحيات مفتوحة، تحمي النظام من أخطائه، التي يجعلها قاتلة بكل معنى الكلمة حجم اقتصاده الوطني الهائل، وانتشار الرأسمالية العالمي وتشابك أطرافها الكونية، وثانيها رأسمالية مسيطر عليها، تم تقييد طابعها الفردي، الذي يتناقض تناقضاً جذرياً مع الطابع الجماعي للإنتاج والعمل، ولعب دوراً خطيراً في نشوء وانفجار أزمتها الراهنة، وأخيراً مستوى حياة مرتفع يوفر قدراً من السيولة والفوائض للقوى العاملة والشرائح والفئات الوسطى، عبر إعادة توزيع جديدة للدخل محكومة ببعد اجتماعي / تنموي لم يسبق للرأسمالية أن عرفته، يختلف اختلافاً جذرياً عن توزيع الدخل كما وقع في بداياتها، وأدى إلى حصولها على النصيب الأكبر من ثروة وطنها وعوائد عمل معظم أبناء شعبه . هنا، سيكون الأمر معكوساً، فلا ثراء بلا قيود، ولا فقر بلا اهتمام من الدولة والمجتمع، بل إعادة توزيع دخل أكثر عدلاً، تنقل جزءاً أكبر من الدخل الوطني إلى القوى العاملة، لتكون منتجة ومستهلكة ومدخرة أيضاً، فلا تثقب شبكة النظام من تحت، بسبب ضعف القدرة الشرائية وتدني دخل العاملين، ولا تسقط من ثقبها الشركات الرأسمالية الكبرى، فيقع النظام في أزمة هي الأشد منذ تشكله وظهوره .
– أن مركز الرأسمالية الأمريكي أصابه ضعف جلي، إنه سبّب الأزمة من جهة وعاجز عن حلها بمفرده من جهة أخرى . لا حاجة إلى حديث تفصيلي حول بروز الصين كقوة إنقاذ كونية ينتظرها دور كبير ومتعاظم الأهمية في تقرير شؤون الاقتصاد العالمي، وعن أهمية بلدان صغيرة ومتوسطة الحجم كالمملكة العربية السعودية بسبب ما تمتلكه من احتياطيات مالية تحتاج أمريكا إليها، كي تمول خروجها من الإفلاس وتوقف شركاتها على أقدامها ويستعيد اقتصادها قدرته على العمل . في المستقبل غير البعيد، سيكون هناك ظاهرة جديدة تجسدها تعددية قطبية اقتصادية داخل الرأسمالية، ستحد من أحادية القطبية السياسية، التي حاولت أمريكا فرضها على العالم بعد انهيار النظام السوفييتي . هذه ظاهرة ستكون لها نتائج هائلة الأهمية على العلاقات والسياسات الدولية، وعلى مواقع وأدوار قواها المقررة، ومن يتأمل المشهد بعد الأزمة سيجد أن أمريكا بدأت تسلم بدور جديد تمارسه الصين في العالم، إن لم يكن دور الشريك فهو دور المعين والمسعف، الذي لن يفتأ أن يصير شريكاً متنامي القوة والأهمية، ثم نداً لواشنطن، في أجل غير بعيد .
– أن العالم يمثل اليوم وحدة كونية متفاوتة التطور، ولكن لا مجال لفصم عراها . ظهر هذا بوضوح في سرعة انتقال الأزمة من أمريكا إلى العالم، وفي تحولها إلى أزمة عامة لم يفلح أي بلد في البقاء خارجها، بعد أن انتقلت من قطاع المال إلى بقية قطاعات الاقتصاد على نطاق كوكبي . تحمل العالم نتائج ثقيلة جداً لأزمة وقعت في دولة واحدة هي أمريكا، تحتل رقعة صغيرة من مساحته وتضم عدداً محدوداً من سكانه، وهو ليس مجبراً بعد اليوم على قبول تكرار ما حدث، ولا بد أن تكون له سلطة على القرار الاقتصادي والحياة السياسية الدولية، وأن يصير مشاركاً في تقريرهما ومسؤولاً عنهما .
بانهيار النظام المالي العالمي وأزمة الرأسمالية، التي قيل قبل سنوات إنها آخر كلمة للتاريخ الإنساني، يكون نظاما القرن العشرين كلاهما: الاشتراكي والرأسمالي قد واجها مشكلات تتعلق بصلاحيتهما لحل مشكلات البشرية في واقعها الراهن، ويكون من الضروري الوقوف مطولاً عند واقعة مهمة ترتبت على الأزمة الأخيرة، هي ضرورة تخطي نظام المعسكر الرأسمالي المتقدم، الذي يستأثر بالقسم الأكبر من خيرات البشرية، ويسبب دماراً رهيباً في البيئة، واستنزافاً قاتلاً في وجود وحياة مليارات الناس، ويبدد موارد ليست ملكه، وينشر قدراً من الاستغلال والبؤس لا يستثني أحداً من أبناء وبنات آدم، وحتمية الانتقال إلى نظام إنساني ما بعد رأسمالي مفرداته الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة كنظام سياسي، والعدالة الاجتماعية والمساواة والتقدم كخيار كوني .
من غير الجائز أن تنتظر البشرية الأزمة القادمة، كي تبدأ بتلمس النظام البديل، نظام الشراكة الإنسانية، لأنها قد لا تبقى بعد نشوب أزمة كهذه، ويرجح أن تهلك تحت وطأة الثمن الذي ستدفعه لتخليص الدول المتقدمة منها .
الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى