أبعد من المحاور والإنقلابات
زياد ماجد
لا تفسّر السياسة وحدها ما جرى في بيروت في الأيام الأخيرة. قراران حكوميان محقّان، لكنهما دون معنى وبلا جدوى في ظل الأزمة الراهنة وفي ظل العجز عن تطبيقهما، يُردّ عليهما بهمجية ميليشيوية في العديد من المناطق اللبنانية، واجتياحاً لبيروت واستباحة لشوارعها وجدرانها وأهلها.
عدم توفيق حكومي توقيتاً، يقابله غرور قوة لحزب لم يقرأ تاريخ لبنان وتجاربه الطائفية وأهوالها لحداثة عهده في السياسة ولعيشه طويلاً في العسكرة وصفوفها المتراصة، وتخبّط جماعي في تناقضات بين خطابات الحرب وأحاديث السلام، مسائل لا تكفي وحدها لفهم خطورة ما جرى والوقوف على الكراهية الدفينة المفضية إليه في شكله الدميم وفي باب الأهوال الذي قد يفتحه علينا.
ما جرى في لبنان في الأيام الأخيرة هو أبعد من كونه خطة إيرانية سورية لتقويض حكم الأكثرية (المترنّح أساساً تحت ضغط الاغتيالات والمقاطعة)، وهو ليس “انقلاباً عسكرياً” يحسم أمراً. فالإنقلاب يتطلب احتلالاً ليس لساحات العاصمة فحسب (وهو في أي حال احتلال مستمر منذ عامين)، بل للسراي ولقصر بعبدا ولليرزة والبنك المركزي وللوزارات وسائر المرافق والإدارات العامة، وهو ما لم يحاول “حزب الله” القيام به، ولن يكون بمقدوره تنفيذه.
ما جرى كان أقرب الى تجسيد معاني الحقد والرعونة والفقر الثقافي التي تتملّك من يعتقد أنه مقدّس، وأنه أعلى شأناً من السياسة رغم انغماسه بها وتحوّله الى أداة فيها. ما جرى هو ثأر بهالة دينية من الدنيا وما فيها من شؤون (ولو شارك فيه قطاع طرق دنيويون أو علمانيون هم الى الفاشية أقرب). هو ثأر من المدينة بالسلاح بعد أن كان قهراً لها بخيم اعتصام فارغة إلا من مكبّرات الصوت وأدوات الشغب المتنقل من موقع الى آخر. ما جرى هو محاولة اغتيال لشوارع حاولت أن تعيش وتتنفّس وتلهو، فإذا بالتسلّط يحاول قمعها ويحوّلها مساحات يفسد الرعاع جمالها وقبحها المتجاورين كما تتجاور التناقضات في المدن وتتنافر بصخب وطمأنينة.
الحرية والقداسة و”الرجولة” البلهاء
على أن الحقد بهالته الدينية، وإن هزم المدينة لفترة، يتراجع ويتداعى كلما عادت الحياة الى المدارس والجامعات، وكلما عاد الناس الى المقاهي والمطاعم والملاهي، وكلما اشتروا صحفهم وكتبهم وقوت يومهم، وكلما تعانق أحبّة من بينهم على الرصيف أو بعثوا موسيقاهم الفرحة من سيارة أو من شرفة مطلّة على كورنيش أو بار يشرب فيه الأصدقاء نخب حياتهم اليومية وتفاصيلها المملّة والمشعّة. والقداسة لا تقوى على مواجهة التنوع والاختلاط، ولا تنفع أمام بحر لا تهدأ حركته وغوايته لأجسام تستمتع بالعري والكسل تحت أشعّة شمسه ورذاذ موجه.
و”الرجولة” التي يظن مغرور أنها قيمة ما، أو أنها مدخل الى “العزّة” والشرف والشجاعة القائمة على قهر المواطنين الراغبين بالنوم بأمان والرافضين التضحية بدنياهم وبأبنائهم وبناتهم، ليست أكثر من قدرة متضخّمة على الكراهية وعدم المبالاة بكرامة العيش المسالم.
وليست سوى استدعاء (عن قصد أو عن غباء) لمشابهين (أو أبشع) في المقلب الآخر، ما زالت ظلاميّتهم مكبوتة في لبنان، وما زالت مخيلتهم العنفية تسكن في صفين وكربلاء وتتوق للرد على المشكّكين بسقيفة بني ساعدة، من بغداد الى بيروت (وضاحيتها)…
في الانتصار لبيروت
على أنه لا انتصار لبيروت بالعنف المضاد. ولا انتصار لبيروت باستجلاب المزيد من العنف الى أحيائها. الانتصار لها يكون بعودة الزحمة الى شوارعها. الزحمة المبتلعة أصوات الرصاص والمسخّفة سبّابات التهديد وقبضات الانضباط. الزحمة المبتلعة كل انتفاخ واستباحة وفجور. والزحمة المبتلعة كل خفّة وتقلّب وتسرّع، الساخرة من سذاجة دعوات الحرب والثأر والاستسلام، والمتيقّنة من أن كل تغيير مؤقت، ومن أن الزمن مطحنة الأوهام.
ولا انتصار لبيروت من دون عودة أصواتها، جميعها، الى الارتفاع. من دون عودة صحفها ومنابرها واذاعاتها وتلفزيوناتها التي أقفلها الأرهاب والضغينة الى الحياة، ومن دون تنظيف الجدران من الصور التي علّقها باغضو بيروت وحريتها وياسمينها وتواضعها…
(كاتب وناشط سياسي)