توزيع جديد للقوى في إيران
مصطفى اللباد
يقف النظام السياسي الإيراني على أعتاب مرحلة جديدة بعد أن قدم الرئيس محمود أحمدي نجاد تشكيلته الوزارية إلى مجلس الشورى (البرلمان) لنيل الموافقة عليها حسبما ينص الدستور الإيراني. سينظر البرلمان في التشكيلة مع نهاية الشهر الجاري، وبغض النظر عن التفاصيل التي ستصاحب جلسة التصويت، فإن السياق الأساسي الذي سيجري فيه يتمثل في تنافس من نوع جديد ليس بين الإصلاحيين والمحافظين هذه المرة، ولكن داخل المعسكر المحافظ. ومرد ذلك أن المعسكر المحافظ يتوزع ثلاثة تيارات أساسية هي التيار الأصولي الذي يمثله الرئيس أحمدي نجاد، والتيار البراغماتي الذي يمثله رئيس البرلمان علي لاريجاني وشقيقه رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني، ثم التيار الثالث يتمثل في المحافظين التقليديين الذين يتشكلون أساساً من نخبة المؤسسة الدينية الإيرانية. وبعد تراجع مظاهر الاعتراض على نتيجة الانتخابات الرئاسية العاشرة في الشارع الإيراني والانكماش الظاهري للتيار الإصلاحي بفعل محاكمات رموزه والقبضة الأمنية لتيار الرئيس أحمدي نجاد، فقد انتقل التنافس السياسي في أروقة الدولة الإيرانية بين التيارات المحافظة الثلاثة.
يقود تقليب النظر في الأسماء التي تقدم بها مكتب الرئاسة إلى البرلمان إلى استنتاج مفاده أن الرئيس أحمدي نجاد توخّى أمرين أساسيين عند اختيار الوزراء: الأول الولاء له شخصياً مع ملاحظة استبعاد ستة وزراء اعترضوا في وقت سابق على تعيين صهره اسفنديار رحيم مشائي نائباً للرئيس. والأمر الثاني يتمثل في الخلفية الأمنية في التشكيلات المختلفة للحرس الثوري وهو أمر يتوافر في غالبية المرشحين للوزارة الجديدة. والدليل على تلك الفرضية ليس السيرة الذاتية للمرشحين فقط، ولكن أيضاً أنّ القائمة لم تتضمن شخصيات قريبة من تيار المحافظين البراغماتيين أو المحافظين التقليديين. ومن المعلوم أن رؤساء الجمهورية في إيران والذين يحتفظون بصلاحيات دستورية تشبه تلك الممنوحة لرؤساء الوزراء في الجمهوريات الرئاسية، قد حرصوا دوماً على توزير بعض الشخصيات القريبة من تيارات سياسية أخرى بهدف الانفتاح عليها وإفساح المجال أمامها للتمثل بالوزارة بشكل رمزي. يمكن ملاحظة هذا التقليد علماً على التشكيلات الوزارية في دورتي الرئيس السابق محمد خاتمي وكذلك في دورتي الرئيس الاسبق هاشمي رفسنجاني، ولكن التشكيلة التي قدمها الرئيس أحمدي نجاد إلى البرلمان لنيل الثقة عليها توغل في إقصاء التيارات السياسية الأخرى من الوزارة وتثبت تياراً واحداً. وتؤدي هيمنة هذا التيار الواحد إلى الهبوط بِحِرَفّية الحكومة الإيرانية الجديدة إلى مستويات غير مسبوقة في الحكومات التي سبقتها، وبشكل لا يتناسب مع الكفاءات الممتازة الموجودة بكثرة في إيران، والتي تكفي في الواقع لتشكيل وزارات عدة وليس وزارة واحدة.
حَوت التشكيلة المقترحة للحكومة المقبلة ثلاث نساء للمرة الأولى في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية، متجاوزة في ذلك تجربة حكومة الرئيس السابق محمد خاتمي، الذي استطاع بصعوبة شديدة إيصال السيدة معصومة ابتكار إلى منصب مساعد الرئيس لشؤون البيئة بسبب ضغوط المؤسسة الدينية. والسيدات المقترحات للوزارة واللاتي ينتمين بالطبع إلى التيار المحافظ الأصولي هن: مرضية وحيد دستجردي لوزارة الصحة التي تبدو حظوظها جيدة في نيل الحقيبة لاعتبارات الكفاءة المطلوبة في هذا المنصب؛ على العكس من فاطمة آجرلو المرشحة لوزارة الرفاه الاجتماعي وسوسن كشاورز المرشحة لوزارة التعليم. يجب عدم الذهاب بعيداً هنا وكأن الرئيس أحمدي نجاد بصدد التحول فكرياً، ولكنه يهدف من اقتراح النساء الثلاث تحقيق أمرين تكتيكيين لتحسين مواقعه. يتمثل الهدف الأول في خطب ودّ النساء اللاتي يصوتن تقليدياً لمصلحة الإصلاحيين، ويتجسد الهدف التكتيكي الثاني في استخدام ورقة الوزراء النساء للمقايضة مع التيار المحافظ التقليدي في البرلمان في مقابل تمرير مرشحيه للحقائب الأكثر أهمية وحساسية.
تشترك الأنظمة السياسية على تباين أيديولوجياتها في إعطاء أهمية كبيرة لوزارات الدفاع والداخلية والاستخبارات، لما لهذه الوزارات من دور حاسم في توزيع القوى داخل النخبة الحاكمة وفي عملية صنع القرار السياسي، ويعطي النظام السياسي الإيراني أهمية إضافية لوزارات أخرى مثل النفط والطاقة. في هذا السياق يعتبر وزير النفط المقترح مير مسعود كاظمي مهماً بشكل استثنائي لسبب أساس وهو أن وزارته توفر 80 % من مداخيل الدولة الإيرانية، هذا فضلاً عن أن إيران رابع أكبر بلد نفطي في العالم. وينعى بعض النواب على كاظمي أنه يفتقر إلى الخبرة والدراية الكافية لإدارة وزارة النفط بالرغم من كونه مرتبطاً بشكل وثيق مع الحرس الثوري، وكان وزيراً سابقاً للتجارة ولكن الخبرة في الوزارتين ليست بالضرورة متطابقة.
ويقول المعارضون داخل البرلمان إن وزير الطاقة المقترح محمد علي آبادي يرتبط بصلة مصاهرة مع الرئيس أحمدي نجاد، وبالتالي فإن شروط الموضوعية لا تتوافر بالضرورة في اختيارات الرئيس أحمدي نجاد.
وعند الانتقال إلى الوزارات السيادية مثل وزارة الدفاع تظهر المشاكل بوضوح، حيث أن أحمد وحيدي المرشح وزيراً للدفاع يتعرض لانتقاد دولي مستمر بسبب مزاعم تتعلق بمشاركته في عملية إرهابية بالأرجنتين عام 1994. وإذ يعتبر المرشح لوزارة الداخلية مصطفى نجار من قدامى القادة في الحرس الثوري وترأس في الثمانينات منظمة الصناعات العسكرية للحرس، وكان وزيراً للدفاع في الحكومة السابقة، فإن الرئيس أحمدي نجاد يستهدف بتعيينه في منصب وزير الداخلية إحكام سيطرة الحرس الثوري على مفاصل الحكومة الجديدة ومنع أية اعتراضات على المرشح لها، خصوصاً بعد المشاكل التي تعرض لها نجاد جراء التمسك بصديقه وزير الداخلية السابق صادق محصولي. أما المرشح لوزارة الاستخبارات حجة الإسلام حيدر مصلحي فقد كان ممثلاً للمرشد في قوات “الباسيج” (الميليشيا التابعة للحرس الثوري)؛ ثم لاحقاً قيادياً في استخبارات الحرس. ويفترض القانون الإيراني أن يكون وزير الاستخبارات مجتهداً لكن حيدر مصلحي ليس كذلك، وهنا ينبغي ملاحظة أن الاجتهاد درجة فقهية شيعية تأتي بعد ثقة الإسلام وحجة الإسلام واجتياز مراحل متقدمة في الحوزة العلمية.
ينص الدستور الإيراني على ضرورة حيازة الوزراء المرشحين ثقة البرلمان، ويكون التصويت فردياً وليس على الوزارة ككل، وسيكون ذلك فرصة للبرلمان ورئيسه علي لاريجاني لإظهار قدراته على تحجيم الرئيس أحمدي نجاد داخل النظام وبالوسائل البرلمانية وضمن إطار النظام وليس خارجه. بمعنى آخر سيحجب المجلس ثقته عن بعض المرشحين لأسباب موضوعية، وسيقيد هامش المناورة الذي يريد الرئيس أحمدي نجاد توسيعه. وهنا يعود الحراك السياسي بين تيارات المعسكر المحافظ ليحتل صدارة المشهد بعد الانقسام الذي ساد الموقف منذ الانتخابات، وهو الانقسام بين الإصلاحيين والمحافظين. وتتعزز هذه الفرضية بملاحظة أن رئيس السلطة القضائية الجديد صادق لاريجاني قام بتعيين محسني إيجئي وزير الاستخبارات السابق نائباً عاماً، وهو الذي أعفاه نجاد بسبب اعتراضه على تعيين اسفنديار رحيم مشائي نائباً للرئيس، في إشارة إلى التمايز بين السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية التي يقودها الرئيس أحمدي نجاد.
ربما يكون اعتراض البرلمان على تعيين أحمد وحيدي وزيراً للدفاع بسبب عدم الكفاءة مخرجاً جيداً للرئيس أحمدي نجاد كي يتخلص من الإحراج الذي ستتعرض له الحكومة في حال تعيين وحيدي وزيراً للدفاع بسبب مذكرة الإنتربول لملاحقته، وهو ما سيترك صورة سلبية عن الحكومة كلها ويعقّد علاقاتها الدولية بقطع النظر عن طبيعة مذكرة الانتربول والدوافع من وراء تحريكها.
يُتوقع أيضاً ألا تحظى وزيرتان من أصل ثلاثة بثقة البرلمان؛ فضلاً عن الصعوبة المتوقعة في اجتياز المرشحين لوزارتي النفط والطاقة عقبة التصويت بالثقة، وبالتالي لن تنتهي العراقيل التي ستواجه الرئيس احمدي نجاد بانتهاء تظاهرات الإصلاحيين، ولكنها ستأخذ أشكالاً صراعية أخرى. وبالرغم من استقالة الشيخ رفسنجاني من إمامة جمعة طهران، وهو منصب رمزي مهم في جمهورية إيران الإسلامية، وبالرغم من تراجعه التكتيكي وإعلانه بضرورة رضوخ الجميع لأوامر الولي الفقيه، إلا أنه مازال محتفظاً برئاسة مجلس الخبراء ورئاسة مجلس تشخيص مصلحة النظام، وهو ما يضعه في الحلقة الضيقة بين أقوى الشخصيات تأثيراً في إيران.
ويتربع “الأخوة لاريجاني” الى جوار رفسنجاني كأهم الشخصيات تأثيراً في النظام السياسي الإيراني الحالي إذ يحتفظان باثنين من السلطات العليا للدولة، رئاسة البرلمان لعلي لاريجاني ورئاسة السلطة القضائية لصادق لاريجاني، وهو أمر يحدث للمرة الأولى في تاريخ جمهورية إيران الإسلامية. وتكتمل الحلقة بالرئيس أحمدي نجاد الذي يسيطر على رئاسة الجمهورية والأجهزة الأمنية للنظام ويمثل بوضوح الحرس الثوري الإيراني؛ في حين يتربع المرشد السيد علي خامنئي فوق الشخصيات والتيارات حَكَماً في ما بينها. وإذ اضطرت “المرشدية” إلى النزول من علياء موقعها للدفاع عن الرئيس أحمدي نجاد والتيار الذي يمثله في أعقاب الانتخابات الرئاسية العاشرة في مواجهة الإصلاحيين، فإن نقل الصراع السياسي من الشارع إلى الحلقة الضيقة للنظام سيسمح لـ”المرشدية” بأن ترتفع مرة أخرى فوق التيارات الثلاثة المكونة لمعسكر المحافظين. وتستلزم عملية نقل الصراع من الشارع إلى أروقة السلطة، تحت الثلاثة إشراف المرشد، أن يتم تحجيم الرئيس احمدي نجاد وإضعافه نسبياً في مباراة مضبوطة الإيقاع ومحددة الرقعة ليس لمصلحة الإصلاحيين بالطبع ولكن لمصلحة هاشمي رفسنجاني وعلي لاريجاني. تأسيساً على ذلك ستكون جلسة البرلمان المقبلة للتصويت بالثقة على التشكيلة الحكومية الجديدة محطة أساسية للوصول إلى غايات توزيع القوى الجديد داخل النظام السياسي الإيراني، بغرض مواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة.
(مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والإستراتيجية – القاهرة)
النهار