شيعة في الحكم
ساطع نور الدين
انشقاق الشيعة في العراق على أنفسهم لا يؤسس لمشروع وطني ولا يخدمه. هو مجرد خلاف على الاجتهاد السياسي داخل الصف الواحد الذي يتولى وراثة الدولة ومؤسساتها من الاحتلال الاميركي، ويدير عملية سياسية معقدة مع السنة الممزقين بين الارهاب الرافض للتسليم بحكم الغالبية الشيعية وبين الفراغ الضاغط على خياراتهم السياسية، ومع الكرد الذين ينتهزون فرصة ضعف السلطة المركزية لبناء كيان لا يعوزه سوى الاعتراف الدولي بشرعيته واستقلاله وحدوده النهائية.
لكن هذا الانشقاق الذي يتخذ شكل نبذ حزب الدعوة بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي من ائتلاف الاحزاب الشيعية الكبرى، يمثل الى حد بعيد ارتدادا على مشروع الدولة الذي أرسي على قواعد ثابتة أهمها إعادة بناء الجيش والقوى الامنية، واستعادة سيطرتها تدريجيا على مختلف أنحاء العراق، بدءا من الانحاء الشيعية التي أنتجت مجموعة متنوعة من الميليشيات الموازية، لا تقتصر على فيلق بدر التابع للمجلس الاسلامي الاعلى أو جيش المهدي التابع للتيار الصدري، اللذين انخرطا لاحقا في المؤسسات العسكرية والامنية بعد جهود وضغوط مضنية.
لا يعني ذلك أن الانشقاق الجديد هو بمثابة خروج نهائي على الدولة العراقية العتيدة ذات الأفق الشيعي، وإحياء لفكرة الميليشيا البديلة، القادرة على حماية الطائفة ومصالحها ومناطقها، لكنه تعبير صريح عن استياء أو حتى عن اعتراض على المساعي الحثيثة التي بذلها المالكي تحديدا لدمج الاقوام والطوائف الاخرى في المشروع العراقي الجديد، والتي انتهت الى ضرب بغداد بأطنان من المتفجرات الاسبوع الماضي فضلا عن تكثيف حملة الابادة العشوائية لكل ما هو شيعي في العراق.. بأدوات محلية لا شك فيها، وبمساعدات إقليمية لا لبس فيها.
هو تعبير حاسم عن قرار الغالبية الشيعية بالرجوع الى الاستقطاب المذهبي الحاد الذي بلورته مؤخرا أكوام الجثث وسيول الدماء في الشوارع، والذي تصرف الشيعة على اختلافهم، ولا يزالون يتصرفون إزاءه بوعي استثنائي، حال حتى الآن على الاقل دون اللجوء الى العمليات الانتقامية من السنة ومن دول الجوار العراقي التي تحرضهم وتمدهم بالمال والسلاح والرجال.. ومثل هذا القرار يؤدي بالنتيجة الى دوام الفتنة لكن بأشكال اخرى، أو لعله يستدعي السنة الى الاندماج في المشروع العراقي الجديد. وهو أمر مستبعد في المدى المنظور على الاقل.
لكن المعيار الخارجي للحكم على ذلك الانشقاق الشيعي لا يقل أهمية عن التفصيل الداخلي الذي يقتصر على سقوط المالكي ومشروع دولة القانون والمؤسسات الذي كان يحاول الترويج له: الزعم بأن أميركا باتت خارج الصورة العراقية يحتاج الى الكثير من التدقيق في وجوه أعضاء الائتلاف الوطني الجديد، والافتراض أن ايران ستكون مرتاحة لإزاحة رئيس الوزراء الحالي والإتيان بأقرب حلفائها وأصدقائها العراقيين يتطلب الكثير من التروي.
الانتخابات النيابية لا تزال بعيدة. وما بين اليوم ومنتصف كانون الثاني المقبل، دهر كامل، يمكن أن يتغير فيه وجه العراق، اذا لم يتغير موقف أميركا وايران.. واذا لم يحقق المالكي مفاجأة ثانية، بعد فوزه الأخير في انتخابات البلديات والمحافظات، على غلاة الشيعة والسنة معا.