التوتر العراقي السوري وتداعيات الأربعاء الأسود
أسامة عثمان
لعل أول ما يلفت الانتباه في الأزمة المتفاقمة بين العراق وسوريا الموقفُ الأمريكي الذي لا يتجاوب مع التوجهات التي تعلنها حكومة نور المالكي؛ فقد اعتبرت واشنطن الخلاف بين البلدين «شأناً داخلياً»، ودعت الجانبين إلى الحوار. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية إيان كيلي: «نعتقد كمبدأ عام، بأن الحوار الديبلوماسي هو أفضل وسيلة للتعامل مع القلق لدى الجانبين». وأضاف: «إنها قضية داخلية للحكومتين العراقية والسورية، لكننا نأمل في ألا يؤثر هذا الأمر في الحوار بين البلدين».
جاء هذا الموقف الأمريكي في وقت طالبت فيه حكومة المالكي بترقية هذا الخلاف إلى مستوى دولي فقد أشار الناطق باسم الحكومة العراقية علي الدباغ إلى أن بلاده «تعمل الآن على صعيد دولي لتقول للعالم إن الجرائم والإبادة الجماعية تنطلق من بلدان في المنطقة، وعلى المجتمع الدولي أن يدعم العراق لوقف هذه الجرائم». وأضاف: «سنطالب من خلال الأمم المتحدة، وعبر علاقاتنا الثنائية، بتسليم هؤلاء إلينا، إذا كانت سوريا ترغب بعلاقات جيدة معنا. إننا نسير على المستوى الدولي لترك الناس يعرفون أن جرائم الإبادة الجماعية، تُطلَق من البلدان في المنطقة».
ولا بد لمحاولة فهم الموقف الحالي من الارتداد إلى التطورات الأخيرة، ولعل أهمها المتعلقة بتعزيز التعاون الأمريكي مع سوريا، وكان آخر تلك النشاطات زيارة وفد من القيادة المركزية الأمريكية إلى دمشق.
تلك الزيارة التي قوبلت باستياء عراقي رسمي بسبب تغييب الطرف العراقي عن محادثات تتناول شأنه، وقد حاولت واشنطن تفسير ذلك بالقول إن محادثاتها مع سوريا هي حول الحدود من الجانب السوري وليس العراقي، وقد امتنعت وزارة الدفاع الأميركية عن الخوض في تفاصيل الزيارة.
وثمة قرائن قد تسهم في إضاءة بعض جوانب المشهد منها إقالة رئيس المخابرات العراقية محمد الشهواني الذي عيَّنه الحاكم الأمريكي المدني بول بريمر منذ الاحتلال الأمريكي قبل ست سنوات، وهو الذي يفاخر بأنه «أول من كشف مدى التغلغل الإيراني في العراق»، وهذا ما أكسبه عداء الأحزاب والكتل السياسية الشيعية.
وبحسب موقع «براثا» التابع لـ«المجلس الأعلى الإسلامي»، فإن حكومة بغداد اتخذت قرار استبعاد الشهواني منذ سنوات، إلا أنه كان يصطدم بالفيتو الأميركي. وقد عمل على بناء جهاز مخابرات شديد التنسيق مع الولايات المتحدة، حتى قيل إنه يحجب بعض المعلومات إلا عن الطرف الأمريكي.
في مقابل علاقة قوية تربط المالكي بطهران، لدرجة التنقل بالطائرات الإيرانية والطواقم الإيرانية، في رحلاته الرسمية، وفقا لمصدر في الاستخبارت العراقية، قال أيضا:” إن إيران قد عرضت على المالكي مساعدته في فوز حزب الدعوة الذي يرأسه بـ49 مقعدا على الأقل في الانتخابات البرلمانية التي ستعقد في شهر يناير (كانون الثاني) المقبل إذا قام المالكي بإحداث تغييرات في حكومته حسب الرغبة الإيرانية.” [الشرق الأوسط- ديفيد إغناتيوس- 27 أغسطس 2009]
هذا الاستفراد الإيراني بالعراق قد لا ينسجم مع توجهات أمريكية ترى ضرورة إحداث شيء من التوازن في المنطقة، يرافقه نوع من التوازن في الداخل العراقي. فعلى صعيد التوازن الداخلي شجعت واشنطن، مثلا، مشاركة القوى السنية في العملية السياسية، كما عملت، على تقوية أطراف سنية، ومنها قوات الصحوات التي دعمتها و حاولت دمجها تدريجيا في قوات العراق الأمنية ووزاراته الحكومية. دون أن تجد حماسة تقارب حماستَها من حكومة المالكي. وثمة مخاطر تنتج عن تباطؤ المالكي وتردده في دمج الصحوات، ربما كان منها- بحسب رأي الأمريكان- ما شهده العراق يوم الأربعاء الأسود.. إذ يقول بعض المحللين إن تردد المالكي بشأن الإسراع في تعيين القوات السنية في المواقع الحكومية والقوات الأمنية يمكن أن يؤدي إلى عودة بعض السنة المحبطين إلى التمرد.
في وقت تسعى فيه أمريكا جاهدة إلى تفادي العودة بقواتها إلى داخل المدن العراقية؛ لأن ذلك -بحسب رأي فريدريك كاغان الخبير بأكاديمية المشروعات الأميركية- سيكون له تأثير «كارثي» بالنسبة لاستراتيجية الولايات المتحدة.
وعلى الصعيد الخارجي سعت واشنطن إلى توازن إقليمي بدعم الأدوار الأخرى، ومنها السوري البلد المجاور، وربما تريد بذلك تعديل علاقة دمشق بطهران، من علاقة استراتيجية متميزة، وطاغية إلى علاقة توافق مضبوط تَقْبل مشاركة سوريا مع دول إقليمية أخرى، قد لا يروق لها الموقفُ الإيراني وتطلعات طهران الخاصة للمنطقة، ومطامعها فيها.
لقد تعاظم النفوذ الإيراني في الفترة الأخيرة، وكان بدأ منذ الفراغ الذي تركه سقوط نظام البعث في العراق، تعاظم حتى صرح علي أكبر ناطق نوري، مستشار (خامنئي) بأن البحرين المحافظة الإيرانية الرابعة عشرة. وقام حزب الله بالسيطرة على بيروت في استعراض واضح للقوة المدعومة بتفوقه العسكري الواضح، وتعاظم دور حماس لدرجة الاستفراد بغزة، وتصفية سلطة عباس فيها. وأصبح العراق حديقة إيران الخلفية، حتى عرضت طهران على العراقيين حمايتهم بعد الانسحاب الأمريكي منه!
ثمة فكرة في قاع هذا التحليل أنَّ إيران لم تنجح في قيادة المنطقة العربية، ولا يتوقع لها النجاح، وقد تواكب ذلك مع التصدعات العميقة التي ضربت بِنْية نظام الملالي في طهران؛ ما يفضي بالضرورة، سواء قُصِد ذلك، أم لم يقصد إلى تهذيب الدور الإيراني والانتقاص من الهيبة الإيرانية.
لقد كانت مرحلة بوش الابن في غالبها محكومة بـ”الفوضى الخلاقة” لمحاولة إنجاز صياغة جديدة للمنطقة، ولكنها، وقد عَجَزَت عن بلوغ أهدافها؛ فقد آثرت الإدارة الحالية الميل بالمنطقة نحو الاستقرار والتهدئة، وقد كان من عوامل قلق المنطقة في تلك المرحلة تعاظم الدور الإيراني، ولعل من ملامح هذه المرحلة تهذيب ذلك الدور، واستعادة شيء من التوازن؛ فهل تؤثر هذه المعطيات على رئيس الوزراء نور المالكي؛ فيستقر على مساره الذي يحاول به الظهور بالمظهر الوطني العام؟
إذ يرفض التحالف مع الائتلاف العراقي الموحد الذي يضم أحزابا شيعية، ويبذل جهودا للتحالف مع أحزاب وعشائر من مختلف ألوان الطيف العراقي لضمان التقدم في الانتخابات المقبلة، طبعا في سبيل ذلك عقبات، منها شعور كثير من العرب السنة بعدم الثقة تجاهه.
وعلى ذلك فثمة مستجدات عملية، ومعطيات نظرية تتطلب إعادة توازن قد لا تُبقي العلاقة الخاصة بين إيران وسوريا على حالها، دون أن يعني ذلك الوصول إلى القطيعة، أو حتى الخروج من دائرة التعاون؛ إذ لا تتطلب العلاقاتُ الإيجابية بين الدول التطابقَ الكلي. أما مقدار الاستقلال السوري عن إيران، واضطلاعها بدور خاص في العراق فمسألةٌ متوقفة على التجاذبات السياسية بين القوى الفاعلة في العراق، كما تعتمد على النجاح الأمريكي في إعادة تنظيم العلاقة بين إيران وسوريا، بالتعاون مع دول مجاورة أخرى مثل تركيا، والسعودية والأردن.