فالصو!
الياس خوري
لا شك ان وطننا الصغير تجاوز كل خيال. انا لا اتكلم هنا عن سياحة المغتربين، او عن الأشقاء العرب، الذين يملأون المجمّعات التجارية، او “المولز”، التي لم نوفق بعد الى ايجاد ترجمة عربية ملائمة لهذه الكلمة. بل اتكلم عن الحكومة. السبب ليس العقد المعروفة او المخفية، وليس سوريالية ان تنتهي الانتخابات بفوز اكثرية لا تستطيع ان تحكم، او بانحسار الاكثرية بسبب خطاب احد اركانها، وتحولها الى واقع غائم. ولا الى مطالب الجنرال عون، الذي لا يستطيع ان يحرم لبنان من طلة الوزير جبران باسيل الكاريزمية، ويريد ازاحة زياد بارود عن وزارة الداخلية لأنه كان وزيرا ناجحا! ولا الى اصرار “تيار المستقبل” على الاحتفاظ بوزارة المال، ولا الصراع على وزارة الأشغال العامة التي اثارت حفيظة وليد جنبلاط والى آخره…
تبدو هذه المسائل مجرد تفاصيل صغيرة، امام سعة الخيال اللبناني.
لم يعد اللبناني يصدّق رجال السياسة، او يقبض السياسة “عن جدّ”، لذا التجأ الى الخيال. لماذا صام فلان عن الكلام، وفتح علاّن الحنفية، او لماذا يهدّئ هذا كي يصعّد ذاك. امور لم تعد تعني احدا. الحقيقة ان الناس ضاعت. الخطاب الوحيد المتماسك هو خطاب “حزب الله”. هنا يجب التوقف طويلا، لأن هذا الخطاب يتماسك حين يتعلّق الأمر بالصراع مع اسرائيل، وبالاستعداد العسكري لمواجهتها. هذا التماسك نابع من صلابة الموقع الاقليمي للحزب، الذي جعل من آلته العسكرية جزءا من هذا الموقع. خطاب “حزب الله” عن الصراع مع اسرائيل لا يحتمل التأويل او المناورة. هو في هذا المعنى، خطاب ثابت، لا يخضع للتقلبات.
اما حين يتعلق الأمر بالسياسة الداخلية، فإن خطاب المقاومة الاسلامية، يصير جزءا من الكلمات المتقاطعة اللبنانية. يريد حكومة في شكل سريع، ويدعم عرقلتها. القطبة المخفية ليست وزير الاتصالات، بل تحجيم رئيس الجمهورية، عبر وزارة الداخلية. وعلى رغم ان خطاب زعيم “حزب الله” كان واضحا حيال ضرورة الاسراع في تأليف الحكومة، كجزء من اقامة سد في وجه اي مغامرة اسرائيلية مجنونة، فإنه يدعم عرقلة التشكيل في شكل موارب.
الطرف الوحيد الذي يحمل خطابا متماسكا، يتخلى عن خطابه، حين يبدأ ببحث المسائل الداخلية. هنا يكمن مأزق المقاومة الاسلامية، التي لا تستطيع ان تتجاوز طابعها الشيعي. وحين تكون اسير الطائفية، فإن قوانينها تسري عليك، حتى لو كنت مقاوما.
كلمات السياسة المتقاطعة، بين العبد العزيزين السعوديين والتاجر الشامي الحاذق، تدفع بالسياسيين اللبنانيين الى فقدان توازنهم، وتجعل لغتهم ملعبا للتفنيص. لذا لا احد يصدّق احدا. لا تستطيع ان تطلب من سياسي لبناني ان “يعطيك من الآخر”، لأنه لا يعرفه، ولا يسعى الى الوصول اليه. انه اسير التأتأة، التي تحوّل كل شيء تفنيصا.
حين يسألونك عن السياسة اللبنانية، لا تجب. كل صح يصير غلطا. فأنت تعيش في مملكة الغلط. واذا “انحشرت” في الجواب، فما عليك سوى الرجوع الى التراث اللغوي الشفهي المندثر، هنا تكتشف اجمل كلمة في اللغة العربية المحكية، لكنها بطلت على الموضة. اذا سُئلت فقل فالصو. هذه هي الكلمة الوحيدة الملائمة. واذا سُئلت عن معنى كلمة فالصو، فلا تعذّب نفسك وتفتح القواميس كي تقدم جوابا دقيقا.
الملفان انيس فريحة اخطأ في كتابه “معجم الألفاظ العامية” (وجلّ من لا يخطئ) حين فسّر الكلمة على الشكل الآتي: “يجب ان يكون اللفظ ايطاليا او لاتينيا، في الانكليزية: false (صفة): مزوّر غير صحيح”. اذ انه لا يشرح العلاقة بين الأصل اللاتيني والكلمة الانكليزية، كما لا يشرح لنا كيف وُجدت هذه الكلمة في العربية المحكية منذ القرن الثاني عشر.
اما المعلم بطرس البستاني فإنه في “محيط المحيط” لا يلحظ وجود هذه الكلمة. ويشرح الفعل الثلاثي فلص على الشكل الآتي: “فلص من الأمر: اخرج نفسه منه. وهو من كلام المولّدين. فلصه تفليصا: خلّصه فأفلص. وانفلص وتفلّص: اي تخلّص”.
قاموس “روبير” الفرنسي يعيدنا الى اصل كلمة falsus، وهي كلمة تعود الى القرن الثاني عشر، ومعناها خدع وتخلّص وزحّط.
لا يوجد معنى دقيق ومحدد للكلمة، انها احدى اجمل الكلمات التي ورثناها من زمن سحيق، حيث اختلطت اللغات في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، واستنبط الناس لغة ملائمة لعصور الظلام الصليبية والمغولية، وقالوا: فالصو!
بعضهم سوف يقول ان اصل الكلمة اسباني او ايطالي، وهذا ليس صحيحا. الصحيح انها كلمة مركّبة كي تقول فالصو. اي كل شيء غلط، والأمور ليست على ما يرام، وكل جهد سوف يذهب ادراج الرياح.
الخيال اللبناني اذاً، هو في القدرة على تحويل الفالصو الى نمط حياة. فإذا كانت السياسة فالصو، والحكومة فالصو، فهل يعني ذلك اننا يجب ان نضّيع اوقاتنا واعمارنا في اعطاء المعنى لحالة فالصوية. ضحّينا كثيرا، وسقط اجمل الشهداء، وبقي الفالصو سيد الموقف.
العيش في الفالصو يعني القدرة على التأقلم مع اي ظرف. هكذا بدل ان نبذل جهدا ضائعا في الوصول الى كتاب تاريخ موحد، نقوم باحتقار التاريخ. وبدل ان نتحرقص لأن الحكومة لا تتشكل، نتعايش مع تصريف الأعمال الى ما لا نهاية. الأفضل، ربما، ان نبقى بلا حكومة. ثم لماذا التغيير ما دام لا شيء سوف يتغير. انتظر سعد الحريري اربعة اعوام، فلماذا لا تكون ثمانية؟ اذا كان التموضع الجنبلاطي قد جبّ نتائج الانتخابات في 7 حزيران، نكون لا نزال في 7 ايار المجيد الذي انجب اتفاق الدوحة، الذي انجب بدوره الثلث المعطّل. الثلث المعطّل سوف يبقى بالصهر ومن دونه، فلماذا التغيير. فليبق كل شيء على حاله، اذ ان غنج الجنرال وبراءة “حزب الله”، يفترضان سَنْيَرَة السنيورة.
هذا الاقتراح ليس جديا بالطبع، اذ لا لزوم للجدية، لكن فحوى الكلام يعبّر عن واقع ان الناس سئمت، ولم تعد تبالي، ولن تصدّق احدا من كشتبنجية هذا النظام الطائفي وضحاياه في الآن نفسه.
بحكومة او من دون حكومة، سوف يقول المواطن اللبناني: كله فالصو. وسيبقى الفالصو مسيطرا الى أن يأفل هذا النظام الطائفي، وتختفي ملائكته وشياطينه.
النهار