النضال التحرري حينما يسقط في نظرة ضيقة
سلامة كيلة
اطلعت على مقال غطاس أبو عيطة المعنون “النضال التحرري بين الشعارات وإرادة التغيير” عبر بعض المواقع متأخراً، لهذا آثرت عدم الرد لأنني لا أعرف الموقع الأساس الذي نشر فيه، لكنني وجدت بأنه قد وضعه في موقع الحزب الشيوعي الفلسطيني- الثوري كجزء من منشورات الحزب، وبالتالي وجب الرد كون الرد الذي وجهه لي بات جزءاً من سياسة هذا الحزب.
المسألة التي تستثير الصديق غطاس هي موقفي من حركة حماس، ومن “قوى الصمود والمقاومة العربية”، خصوصاً من الأولى. منطلقاً من أنني أشكك فيها، وبالتالي أنني أتقاطع “مع مواقف نظم وقوى الاستسلام العربية”، وأنني أحلم “بحركة ثورية تأتي على مقاس مفاهيمي المسبقة”.
لاشك في أنني أختلف مع تقدير غطاس لطبيعة حماس و”قوى الصمود”، وطبيعة “الانعطاف” الذي تحقق لمصلحة “قوى المقاومة”. وسبب الاختلاف يكمن في أن غطاس ينظر إلى ما يجري نظرة سطحية للغاية، ولا يلتفت إلى بديهية أي تحليل ماركسي (كونه ماركسياً، وعضو قيادي في حزب شيوعي ثوري)، وهي أن أي تحليل يجب أن ينطلق من الأساس الاقتصادي، ومن التحليل الطبقي. وكون المرحلة الفلسطينية هي مرحلة تحرر وطني كما يشير الحزب، لا يعني الالتصاق بالوطني في التحليل وتجاهل الطبقي، حينها يكون التحليل قد خرج عن طابعه الماركسي، وهذا لا يعني تجاهل الوطني، بل يعني رؤية الوطني عبر التحليل الطبقي. فالموقف الوطني هو موقف طبقي.
لكن قبل التطرق إلى حماس وسورية لا بد من الإشارة إلى أن غطاس لا يعرف موقفي الذي يرد عليه، لهذا فهو يحملني ما أنا ضده. لقد انطلق من اختلافي عن رأيه حول حماس وسورية فأسبغ عليّ أفكار يطرحها آخرون كنت قد وجهت لمواقفهم من المقاومة وإيران نقداً متتالياً منذ زمن. فهو يتهمني بـالمشاركة “في التهويل من خطر الأطماع الإيرانية في المنطقة، مغطياً من موقعه توجه نظم وقوى الاستسلام نحو التحالف مع القاعدة الصهيونية بذريعة مواجهة خطر التمدد الإيراني(؟)”. يبدو أنه لم يقرأ لي سوى المقال الذي يرد عليه (وهو مقال “الوهم الفلسطيني واليقين الصهيوني”، الذي وضع العنوان هو المشرف على صفحة الرأي في جريدة السفير، بينما كنت عنونته بـ “القضية الفلسطينية: أية قضية؟”)، حيث أنني ربما من أوائل الذين حاولوا إيضاح السياسة الأميركية الجديدة بداية العام 2007، وأوضحت هذه النقطة بالتحديد، ليس لأنني كنت أدافع عن إيران، فليس من الممكن الدفاع عنها في العراق خصوصاً، ولقد أشرت إلى ذلك في المقال، لكن لأن الصراع الرئيسي هو مع الاحتلال الأميركي الصهيوني ( يمكن العودة إلى مقال “الجديد في سياسة بوش الجديدة” موقع الحوار المتمدن). وبالتالي فإن هذا الخلط يشير إلى أن غطاس يريد الدفاع عن قوى فقط، بغض النظر عن الحقيقة. وبالتالي فهو يميل إلى تصنيف الآخر ليس كما هو بل كما يريد غطاس ذلك. شكراً فهذه نظرة ضيقة ونفعية.
الآن، يمكن تناول الموقف من سورية وحماس. ولأن غطاس ينطلق من رؤية “وطنية عامة” تتجاهل التحليل الطبقي، يعتبر بأن موقفي من النظام في سورية ناتج عن ميله للتفاوض (وهو الميل الذي لا يعترض عليه غطاس، حتى فيما يتعلق بحماس). حيث يقول “صاحبنا” (وهي كلمة يستخدمها غطاس بتقويلي) “بأنه ما دامت حركة حماس قد قبلت التنافس على سلطة أوسلو الوهمية، ومادامت قد رضيت بحل الدولة في حدود عام 1967، فهي لم تعد تقف خارج الأرضية التي أوصلت قيادة منظمة التحرير برئاسة فتح إلى مستنقع التفريط بالحقوق الوطنية الفلسطينية. ومادامت قوى الصمود العربية وتحديداً سورية، قد قبلت الانخراط في –عملية السلام- مع العدو الصهيوني برعاية أميركية، فإن موقفها ما عاد مختلفاً عن مواقف نظم التبعية التي أوصلت الواقع والوعي العربيين إلى موقع التسليم بالمشروع الصهيوني”، فعدولها “عن طرح هدف إنهاء القاعدة الصهيونية ودحر وظيفتها العدوانية تجاه الوطن العربي، هو الدليل الدامغ على تخليها عن الثوابت القومية”.
سأبدأ من هذه الأخيرة، حيث أن المشاركة “عملية السلام” هي تعبير عن رؤية فئة اجتماعية تحكم الدولة. وليس من الممكن أن ننظر إليها بمعزل عن فهم مصالح هذه الفئة. فلماذا تسعى إلى التفاوض، حتى لو كان الهدف هو استعادة الجولان؟ هل أن المشكلة هي في استعادة الجولان، أم أن المسألة تتعلق بوجود كيان احتل فلسطين ويسعى للهيمنة على المنطقة؟ وهل يمكن تحقيق “السلام” معه دون القبول به وبسياساته، وبدوره الهيمني؟
لكي لا أدخل في تفاصيل كثيرة هنا أقول بأنني أنطلق أساساً من البنية الطبقية في فهم مدى الصمود وطبيعة المقاومة التي يمكن أن تنتج عنه. لقد أصبحت مصالح الفئات التي استفادت من السلطة منوطة بالتفاهم أميركا والدول الرأسمالية، وليس في تطوير الصراع ضدها. وهذا يجعل السؤال هنا هو: لماذا هذا “التناقض” القائم؟ وليس الانطلاق “البديهي” من وجود تناقض عميق. إن الرأسمالية التي تتشكل معنية بالتكيف مع طابع النظام الرأسمالي المهيمن، وهي معنية بإيجاد حلول للمشكلات القائمة. وهذا يعني بأن كل مواقف “الصمود والمقاومة” هي مؤقتة ولحظية، وتخضع لنتائج التفاهم مع ذلك النظام.
والماركسي لا يقنع بوجود توافق مع قوة ما، بل يجب أن يدقق في حدود هذا التوافق، ويعرف الاختلاف أكثر. وإلا وقع في مطبات كثيرة تهمشه، كما حدث ويحدث للقوى الماركسية المختلفة. إن رؤية “تناقض” ما بين قوة والرأسمالية لا يفرض “الإندلاق” والقبول بموقع تبعي، بل يفرض معرفة حدود التوافق وكذلك حدود التناقض معه. وهذه بديهية في الماركسية، لا يعرفها من لا يعرف الماركسية فقط.
أما حماس، فقبل التهويل من طابعها المقاوم يجب أن يبحث الماركسي في تاريخيتها، وطبيعة الفئات الاجتماعية التي تعبّر عنها، ودورها منذ نشؤها، ومن ثم فهمها للقضية الفلسطينية، وممارساتها…ألخ. فلا يكفي أن نراها في هذه اللحظة بعيداً عن فهم طبيعتها. وهذا الإشكال كان في أساس العلاقة مع قيادة حركة فتح، التي جرجرت كل هذه القوى إلى منحدر خطوة خطوة، دون نقد، وأساساً دون فهم لطبيعتها وسياساتها، حيث أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه خطأ أو فجأة، بل أن طبيعتها الطبقية هي التي كانت تفرض هذا السياق وصولاً إلى هذه النهاية الحزينة. لقد جرى النظر إلى قيادة فتح كما يجري النظر اليوم لحماس، دون فهم ودون نقد، وبـ “تبعية” لافتة. وبالتالي فإن غياب التحليل الطبقي يجعل “المسألة الوطنية” هي أساس الانضواء تحت قيادة أيّ كان، أي دون التدقيق في مصالح هذه القيادة الطبقية، ومدى انعكاسها على سياساتها، وتمسكها بالمسألة الوطنية والنضال من أجلها، ومتى “تتعب” وتبدأ بالتخلي التدريجي عن هذه المسألة، عبر الدخول في مساومات، وبتقديم تنازلات.
هنا المسألة الوطنية ليست عاصماً عن التنازل والتخلي، بل أنها تنحكم للطبيعة الطبقية، ومدى تمسك الطبقات بها. فقد قادت البرجوازية النضال من أجل الاستقلال وقبلت بفتات دول. ووصلت البرجوازية الصغيرة إلى السلطة تحت شعارات كبيرة لكن فئات منها اهتمت بالنهب ومراكمة المال، وهي الفئات التي استمرت في الحكم. ووجدنا قيادة فتح تميل إلى القبول بحل يتخلى عن 80% من فلسطين بعد أن اعتقدت بأن القوة الشعبية التي حصلت عليها تؤهلها لأن تحصل على “دولة”.
ولماذا لا تكون حماس غير ذلك؟ حماس التي هي بنت الإخوان المسلمين، الذي كان موقفهم إلى نهاية ثمانينات القرن العشرين التوافق مع قوى الإيمان (أميركا والدولة الصهيونية) ضد قوى الإلحاد (قوى المقاومة الفلسطينية وخصوصاً اليسار). رغم ذلك يمكن القول أنها تطورت بعدئذ، وأصبحت “قوة مقاومة”، لكن ما هو فهمها للمسألة الوطنية؟ وكيف ترى أشكال الصراع؟
من الزاوية الطبقية لا يجوز أن ننسى بأنها في تداخل مع الفئات “الرأسمالية” في الخليج، وفي إطار الروابط التي تربط الرأسمال “الإسلامي” عموماً، وهو رأسمال مهيمن عليه من قبل الرأسمال الخليجي. ولهذا كانت ضد التحرر بالأساس، وضد المسألة الوطنية (فالوطن لله)، وهو الأمر الذي جعلها تخوض معركة الإيمان ضد الإلحاد. وربما كانت هذه المسائل بحاجة إلى تحليل أوفى، لكن ما يهمنا هنا هو أن الحركة تنطلق من مشروع هو في جوهره مشروع أصولي، لهذا ترى الصراع ضد الدولة الصهيونية من منظور ديني، وهذا المنظور هو ذاته الذي جعلها تكون جزءاً من تحالف الإيمان ضد الإلحاد، والذي يجعلها تعود إلى هذا التحالف في أي لحظة بغض النظر عن كل المسألة الوطنية. ثم أنها بمشروعها الأصولي تصعد الصراعات في المجتمع الفلسطيني لأنها تعمل على فرض “عقيدتها” على الآخرين، ولازالت تتعامل مع اليسار من المنظور الديني ذاته (أي أنها ملحدة).
هذا في المنظور العام، وبالتالي إذا تابعنا سياساتها منذ أن دخلت الانتخابات وأصبحت في السلطة نلمس الميل الذي يحكمها، والقائم على “الوصول إلى هدنة طويلة”، ومن ثم التراجع عن هدفها الذي جعل الشعب الفلسطيني ينتخبها، أي هدف كل فلسطين، وبالتالي التحوّل السريع إلى طرح مسألة التفاوض للحصول على “دولة” في الضفة الغربية وقطاع غزة. هل هدف الدولة المستقلة صحيح؟ ربما غطاس يعتبر بأن هذا الهدف صحيح وممكن، وبالتالي تكون سياسة عرفات صحيحة. وإلا لماذا هي صحيحة هنا وخاطئة هناك؟
بالنسبة لي هي سياسة خاطئة ومدمرة، ليس لأننا نتنازل عن 80% من فلسطين (ولن أضع هنا كلمة فقط) بل لأنه ليس من الممكن الوصول إلى أية حلول وسط مع الدولة الصهيونية، التي تعمل كما بات واضحاً لنا على قضم كل أرض فلسطين. إن خطأ سياسة عرفات وكل المنظمات الفلسطينية لم يكن في “التنازل” فقط، بل أساساً في رسم إستراتيجية بناءً على تحليل خاطئ يقوم على إمكانية تنازل الدولة الصهيونية عبر الضغوط الدولية. دون لمس بأن هذا خيار مستحيل بالتالي. و نقد ميل حماس إلى القبول بدولة في حدود سنة 1967 ناتج عن هذا التحليل. بمعنى أنها تتوهم ما هو مستحيل. وهذا أمر أساسي في الموقف منها، وفي الصيغة التي يمكن أن تطرح للتعامل معها. فالماركسي لا يجب أن ينساق خلف أوهام، وإن كان يجب أن يدعم كل مقاومة (وهو الأمر الذي جعلني أرفض كل المنطق الذي كلن يحمل حماس مسئولية الحرب على غزة، والذي يسخّف المقاومة بناءً على الموقف من حماس). ولهذا، وإن كان يتوافق مع حماس في لحظة، يجب أن يعرف حدود هذه اللحظة وأبعادها. ومن ثم ألا يهمل الصراع الأيديولوجي معها، أو يتخلى عن رؤى لديه لأنها تتناقض معها، وأن يبقي على مسافة تسمح له بأن يتحوّل إلى قوة فعلية وألا يبقى ملحقاً بها، وهامشاً لها.
هذا يدخلنا فيما طرحه غطاس باستهزاء لطموح “بعض المثقفين”حول “الحلم بحركة ثورية تأتي على مقاس مفاهيمه المسبقة”. فمن المؤسي ألا يكون لماركسي هذا الحلم، وأن لا يرى في ذاته قوة قادرة على أن تكون البديل الذي يعي الواقع بوضوح، وبالتالي يحدد السياسات والتكتيكات الصحيحة. وأن يعتبر بأن ما يجري في الواقع هو “أمر الله”، فيبقى يتنقل من التبعية لقوة إلى أخرى، دون تفكير جاد بأن الماركسية تمده (أو يجب أن تمده) بالوعي الكافي لكي يفهم الواقع أفضل من كل الآخرين، وتؤهله لأن يضع التكتيكات الصحيحة، وعلى تنظيم الفئات الطبقية التي ليس لديها خيار سوى القتال إلى النهاية. طبعاً يمكن في لحظة أن تتبوأ القيادة قوة طبقية ما، لكن معرفة حدود مصالحها تقود إلى معرفة حدود سياساتها، وبالتالي تدفع الماركسي إلى أن ينشط لكي يصبح هو القوة الفعلية، وهذا لن يتحقق وهو في علاقة تبعية لتلك، لهذا، وإذا كانت يسعى للتنسيق في المقاومة، عليه أن يبقى مستقلاً، ويبقى في صراع فكري معها.
لقد صاغت قيادة فتح سياسات وبنى كل المنظمات الأخرى وفق رؤيتها هي، وهي تطرح مسألة التحالف، وتركز على ضرورة الوحدة الوطنية، وبالتالي جرفتها خلفها. الوحدة ليست ضرورة دائماً، ربما تكون هناك حاجة للتنسيق، لأن الذي يفرض ذلك هو المقدرة على تنسيق النشاط ضد العدو الرئيسي مع الحفاظ علة الرؤية المستقلة، كما على وضوح الاختلاف. هذا هو التكتيك الماركسي، وإلا تحول التحالف إلى تبعية كما نرى.
ثم أن قيادة طرف ليست قدراً من الله، بل هي نتاج عجز آخر، وهنا كان عجز اليسار الماركسي هو في أساس قيادة فتح للمقاومة، والآن قيادة حماس لها. فمثلاً لم تستطع الجبهة الشعبية ذلك رغم قوتها في الداخل لأنها ارتكبت مئات الأخطاء في الرؤية والتكتيك، ولقد قادت حماس ليس لأنها إسلامية بل نتيجة هذه الكومة من الأخطاء، حيث أن الكثير من دعم حماس جاء من قواعد اليسار. أقصد بأنه ليس القدر هو الذي يفرض قيادة قوة ما، بل أن الفعل الواقعي هو الذي يقود إلى ذلك. ولأن اليسار لم يحلم في أن تكون الحركة الثورية على مقاس مفاهيمه كلن طبيعياً ألا يصبح في القيادة، ولأنه كذلك ارتضى أن يلتحق بقوة ما، من فتح إلى حماس.
إن التوافق مع قوة ما على نقطة لا يعني التوافق على رؤية، وحين تقزّم الرؤية إلى نقطة تضيع القوة، تتلاشى، وتصبح هامشاً معلقاً في الأقوى.
طبعاً يمكن أن أطرح تصوري لسياسة حماس وأخطائها، لكنني أوضحت ذلك في أكثر من مكان، ولهذا ركزت هنا على نظر الماركسي، لأن الاختلاف العميق مع غطاس هو هنا، أما الباقي فهي تفاصيل لهذه. ثم أنني كذلك لم أتطرق إلى طلبه بـ “كشف” رؤيتي حول الربط بين النضال التحرري الذي يخوضه الشعب الفلسطيني والنضال التحرري الذي تخوضه الأمة، لأنني أوضحت ذلك في أكثر من مكان وبالتالي يمكنه أن يعود إليها فيما إذا كان مهتماً بذلك.
يبقى أن مشكلة النضال التحرري لا يتم بتفخيم الكلمات حولها، ولا بتضخيم القوى، وأيضاً ليس بالانسياق خلف الكلام العمومي حول الصمود والمقاومة، بل البحث الدقيق في طبيعة القوى ومقدرتها وحدود تماسكها، وبالتالي بالاتفاق والاختلاف معها. هكذا يفعل الماركسي بدل أن يندفع خلف حماس وانفعالية مدمرين.
الحوار المتمدن